الإوزة التي تبيض ذهبا

الإوزة التي تبيض ذهبا

عماد سرحان :

يحكى في قديم الزمان أن فلاحا بسيطا كان يملك مزرعة صغيرة في إحدى القرى البعيدة وكان يربي في مزرعته مجموعة من الإوز التي تنتج له كل يوم بيضا يسترزق منه, وفي صباح أحد الأيام وأثناء قيام الفلاح بأخذ البيض من تحت كل إوزة, وجد بيضة من الذهب لدى إحداهن فاعتقد في البداية أنها مزحة من أحد أصدقائه ولم يصدق أنها من الذهب فعلا حتى قام ببيعها في سوق المدينة جانيا الكثير من المال الذي لم يكن ليحلم به يوما من الأيام.
تكرر هذا المشهد مع الفلاح صباح كل يوم فبدأت الأموال تنهال عليه وتزداد يوما بعد يوم وأصبحت الخطط والمشاريع والأحلام هاجسه الوحيد لدرجة أنه ينتظر بزوغ فجر كل يوم ليهرع إلى إوزته المدللة فيأخذ بيضها الذهبية ويبيعها فيكمل مشاريعه وخططه.
وفي يوم من الأيام, أخذ الفلاح يفكر بطريقة عبقرية يجني بها أكبر كمية من المال بسرعة ودون عناء الانتظار صباح كل يوم فقرر أن يفتح بطن الإوزة ويخرج كل ما فيها من بيض ذهبي دفعة واحدة. ففعل ذلك فعلا, لكن فوجئ بأن لا يوجد بيض ذهبي داخل بطن الإوزة وأكتشف بعد ذلك أنه فقد البيض الذهبي إلى الأبد بفعلته تلك.
هل تعتقد أن الفلاح لم يكن على صواب عندما فعل ذلك ؟ بالتأكيد !!!!!
لكن هل تعلم بأننا كل يوم نتصرف بنفس الطريقة التي تصرف بها ذلك الفلاح البسيط ونفقد من البيض الذهبي ما لا يعلم عدده إلا الله ، فالفلاح اهتم بالبيض الذهبي لكنه نسي تماما الإوزة التي كانت تنتج له ذلك البيض, فذبحها من أجل البيض ، اهتم بالإنتاج وليس بمصدر الإنتاج. تماما كما نهتم نحن بتحصيل أولادنا للعلم دون أن نهتم بأولادنا أنفسهم ، نهتم بالإنجاز الذي يقوم به موظفونا... دون أن نهتم بموظفينا أنفسهم، نهتم بإنتاجية العمال......دون أن نهتم بالعمال أنفسهم ، نهتم بالخدمات التي تقدمها زوجاتنا لنا (أو أزواجنا لنا)......دون أن نهتم بزوجاتنا أو أزواجنا، نهتم بالنجاح الذي نحققه في هذه الحياة......دون أن نهتم بأنفسنا نحن الذين نصنع النجاح.
نعم نحن تماما كهذا الفلاح المسكين....نهتم بالبيض الذهبي دون أن نهتم بمن أنتج هذا البيض.
والعبرة هنا بالاهتمام بمصدر الإنتاج ذاته وليس الاهتمام من أجل الإنتاج , فالفلاح البسيط كان يعتني بإوزته وكان يعتبرها مدللته ليس من أجل الإوزة (مصدر الإنتاج) بل حتي تنتج له ذلك البيض (الإنتاج). وفلسفة الفلاح تلك هي ما تعودنا عليه على مر العصور فنحن نتظاهر بأننا نهتم بأولادنا لكننا في الحقيقة نهتم بما سيحصله أولادنا حتي يكونوا مفخرة لنا’ ونهتم بزوجاتنا ولكن حتي يبقين راضين عنا وتستمر خدماتهن لنا,,,,,, وهكذا.
ولعل ذلك نابع من موروث قديم توارثناه عبر العصور ففي كتب الإدارة نظريات كثيرة تؤكد ذلك من خلال التجربة الشهيرة التي كررها خبراء الإدارة عشرات المرات على مدي قرون حيث يأتون الي مجموعة من العمال ويقسمونهم الي جزئن أحدهما يبقي على حاله والأخر يتم زيادة معدل الإضاءة في المكان الذي يعمل فيه فيلاحظوا أن الفئة الثانية قد زادت من إنتاجيتها عن الفئة الأولي فاستنتجوا أن الحوافز المادية هى السبب الأساسي لزيادة الإنتاج.
لاحظ..... أنهم يتحدثون عن الإنتاج وليس عن العمال وهم مصدر الإنتاج ، لكن في العقود الأخيرة بدأت هذه النظرة بالتغير عندما قام أحد علماء الإدارة بإجراء ذات التجربة مرة أخري, لكنه بعد أن قام بزيادة معدل الإضاءة للفئة الثانية أعاده الي ما كان عليه سابقا ففوجي بأن إنتاجية الفئة الثانية بقيت كما هي مرتفعة عن الفئة الأولي ولم تنخفض رغم أنهم متساوون في الإضاءة. وبعد الدراسة والتحري وجد الدارسون أن سبب زيادة إنتاجية العمال لم تكن مرتبطة بالأساس بزيادة معدل الإضاءة كما أعتقد علماء الإدارة على مر الزمان بل كان بسبب شعور العمال أن إدارتهم مهتمة بهم.... لذلك استمرت إنتاجيتهم مرتفعة رغم أن لإضاءة عادت كما كانت، تغيرت النظرية...لكن لم يتغير الناس ، فما زلنا نهتم بالإنتاج ونهمل مصدر الإنتاج والأزمة الاقتصادية الأخيرة دليل على ذلك حيث اهتم الناس بالمال بدلا من اهتمامهم بمصدر المال، نعم إنه الاهتمام....وبمصدر الإنتاج.
إن علينا أن نحاول الاهتمام أكثر بمصادر الإنتاج لدينا (الموظفين, الأبناء. الزوجات, العمال) ولا نضع جل اهتمامنا بالإنتاج فقط فهو تحصيل حاصل لاهتمامنا بمصدر الإنتاج.
وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما قال"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

الأكثر قراءة