الجهود الفرنسية .. عقبة في مشروع الأطماع التركية
الجهود الفرنسية .. عقبة في مشروع الأطماع التركية
نشطت السياسة الفرنسية الخارجية أخيرا، نتيجة لجهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أصغر رئيس عمرا في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، الذي شغل منصب وزير الاقتصاد سابقا، إذ تمكن من تجاوز الأزمات بعد دخوله بوابة قصر الإليزيه، منطلقا بتسويات سياسية داخلية، أرست ركائز الاستقرار السياسي والاقتصادي، لتلعب فرنسا دورا عالميا في ملفات عدة، أبرزها الأحداث الجارية في العالم، تحديدا في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، معيدا الذاكرة إلى فترة حكم الرئيس ساركوزي، الذي ترك بصمة سياسية كبيرة في كثير من الملفات.
رسم الرئيس ماكرون أهدافا سياسية بعيدة المدى، منها ما تحقق، ومنها ما يتم التأكيد على تحقيقه، إضافة إلى السعي لتحقيق أهداف أخرى جديدة، خصوصا بعد فترة الركود التي عاشتها باريس في ظل حكم الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند، الذي ترك وراءه عديدا من الأزمات، أبرزها تعرض البلاد لهجمات إرهابية، وأزمات العمال والبطالة، التي أدت إلى مقتل 238 مواطنا فرنسيا في 2015، وكذلك أزمة المزارعين، إضافة إلى مواجهات مع تجار اللحوم والألبان، تسببت في إضرابات واسعة في عموم البلاد، وهذه التركة من الرئيس هولاند لخلفه الحالي، لم تكن عبئا خفيفا.
يسعى الرئيس ماكرون إلى استعادة مكانة فرنسا في منطقة الشرق الأوسط والعالم، من خلال رسم أطر إقليمية ودولية تكون فرنسا طرفا رئيسا فيها، بالتوافق والتشارك مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وبدرجة أقل مع اللاعبين الإقليميين في المنطقة، خصوصا بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، إذ تعد باريس القوة العسكرية الأكثر عتادا وعدة، التي لا تخضع لعقوبات أو اتفاقات تحد من قدرتها على التوسع، حيث إنها قوة نووية وأحد المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وعضو دائم في مجلس الأمن، وكذلك يجب عليها إغلاق الثغرات التي تخلفها في ظل التراجع الأمريكي تجاه المسؤوليات المتعلقة بحلف شمال الأطلسي وأوروبا، والشرق الأوسط، وشمال إفريقيا.
تتزامن هذه الأحداث والمساعي الفرنسية في وقت تطالب فيه قوى أوروبية بتوحيد السياسة الأوروبية الخارجية، وإنشاء قوة عسكرية مشتركة، تمكن أوروبا من العودة كلاعب رئيس في المستجدات العالمية، فيما تكون فرنسا ضابط الإيقاع في هذا التشكيل الجديد، خصوصا مع رغبة الرئيس ماكرون، الذي دخل المنطقة من البوابة اللبنانية بعد انفجار بيروت وزارها مرتين، واستمع لأهاليها، موجها ضغوطات كبيرة إلى النخب السياسية اللبنانية، لاختيار حكومة حقيقية تحقق تطلعات الشعب، ومطالبا بتسليم سلاح ميليشيا حزب الله اللبناني، في ظل انكماش نفوذ طهران في لبنان، بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
كما تنتظر باريس ما ستنتجه الانتخابات الأمريكية من رئيس، سواء استمر الرئيس الحالي دونالد ترمب في منصبه لفترة رئاسية ثانية، أو فاز جو بايدن المرشح الديمقراطي، ليتم رسم التحالفات والمخططات في المنطقة، خصوصا في ظل التمسك الفرنسي بالاتفاق النووي الإيراني الموقع في 2015، واصرار الإدارة الحالية على توقيع اتفاق جديد بعد الانسحاب من الاتفاق الأول، وفي حال فوز بايدن المرشح الديمقراطي، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس السابق أوباما، الموقع على الاتفاق مع إيران.
تبنى الرئيس الفرنسي مواجهة المد التركي بالتنسيق مع كل من قبرص واليونان في منطقة شرق المتوسط، من خلال بذل جهود كبيرة، لكبح جماح أحلام رجب طيب أردوغان العثماني الجديد، الذي يحاول جاهدا الوجود في مراكز الصراع وقطف ثمار النزاعات لمصلحته، لكن الجهود الفرنسية، التي أعلن عنها الجنرال فرنسوا لوكوانتر رئيس الأركان الفرنسي في مقابلة مع صحيفة "لوموند" أنه "إذا لم يكن هناك خطر للانزلاق إلى نزاع مع الأتراك، ففي المقابل، نحن بكل وضوح في حالة تصعيد، إذ إن المواضيع الخلافية كثيرة بين الدولتين"، التي أجبرت نظام حزب العدالة والتنمية في أنقرة على سحب سفينة التنقيب عروج ريس من المنطقة المتنازع عليها مع اليونان شرقي المتوسط، خصوصا بعد تهديد قادة دول جنوب الاتحاد الأوروبي السبع، بفرض عقوبات أوروبية على تركيا في حال لم تضع حدا لأنشطتها أحادية الجانب في شرق المتوسط، إذ سبق الانسحاب بيان أن الرئيس الفرنسي عبر في اتصال هاتفي مع كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس الوزراء اليوناني عن القلق من قيام تركيا بأعمال استكشاف "أحادية"، ما دفع فرنسا إلى تعزيز وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط، بهدف مراقبة الوضع في المنطقة وإظهار تصميمها على الالتزام بالقانون الدولي.
كما تتواصل جهود الرئيس الفرنسي ماكرون في ليبيا، بتكثيف الضغوط على الخصم ذاته في قضية شرق المتوسط، الرئيس التركي أردوغان، الذي قدم إليها بتمويل قطري وغطاء من جماعة الإخوان المسلمين، التي شكلت حكومة الوفاق وحازت شرعية دولية في غفلة كان يعيشها المجتمع الدولي آنذاك، مستغلينها بتوقيع اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الليبية، واجهتها اتهامات فرنسية تدين الرئيس أردوغان بعدم احترام مخرجات مؤتمر برلين وقرارات حظر السلاح.
يعد الفرنسيون التقارب الروسي التركي خطرا على مصلحة الاتحاد الأوروبي واستقراره، خصوصا أن الصراعات تقف على أبواب القارة الأوروبية، بعد عملية لي ذراع ممنهجة من تركيا تجاه أوروبا فيما يتعلق بملف اللاجئين، وحتى اللحظة لم تتبلور السياسة الفرنسية بشكلها المطلق في ليبيا، لكن رؤية الرئيس ماكرون تسعى إلى إصلاح ما تعده أخطاء الماضي هناك، إذ تتمحور مخططاته السياسية سواء في ليبيا أو غيرها حول الحلول السياسية والتسويات المعقولة، بعيدا عن اللجوء إلى المواجهات العسكرية، لكن اللجوء اليها إن استدعت الحاجة ذلك، ما يجبر الخصم التركي على التقوقع على نفسه، وعدم التحرك نحو منطقة الهلال النفطي، وحوض خليج سرت، إضافة إلى الجفرة وسط ليبيا، التي تحظى باهتمام مصري عالي المستوى.
وفي السياق ذاته، يرى متابعون للشأن الليبي تقاطع المصالح المصرية الفرنسية في ليبيا، إذ تمثل جهود الرئيس ماكرون هناك حلقة تواصل مع التخوف المصري من التدخلات التركية في ليبيا، التي عدتها القاهرة خطرا على أمنها القومي، ما يزيد من احتمالات الإقصاء للسياسة التركية في ليبيا، بإرساء الأمن والاستقرار هناك، وتشكيل حكومة توافقية ترضي جميع أطياف الشعب الليبي، وتؤسس لدولة مستقلة ذات جيش وطني قوي يسيطر على البلاد، وينهي أشكال الصراعات كافة، في الوقت ذاته تفي الدول الكبرى بالتزاماتها في ليبيا.
إلى ذلك، دعا الرئيس الفرنسي تركيا إلى فتح مجال لحوار مسؤول وبنوايا حسنة، ومن خلال تغريدة له من أجاكسيو في جزيرة كورسيكا، أنه يرجو من وراء ذلك معالجة الأزمة القائمة بين باريس وأنقرة على خلفية التنافس الجيوسياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط وليبيا، موضحا ذلك بقوله، "بعثنا برسالة واضحة إلى تركيا مفادها، دعونا نعيد فتح حوار مسؤول، بحسن نية، ودون سذاجة"، مضيفا "هذه الدعوة الآن هي أيضا دعوة البرلمان الأوروبي، يبدو أنها سمعت، فلنتقدم إلى الأمام".
وفي اطار السعي الفرنسي إلى تجاوز الأزمات، بحث الرئيس ماكرون مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد خلال اتصال أخيرا، عددا من القضايا ذات الاهتمام المشترك في منطقة الشرق الأوسط، وجهود الدولتين في دعم السلام والاستقرار في المنطقة، إذ تقف الإمارات العربية المتحدة إلى جانب المملكة العربية السعودية في التحالف العربي ضد الإرهاب الحوثي المدعوم إيرانيا في اليمن.