متحف أيا صوفيا في اسطنبول
بيت الحكمة بنيت قبل 1500 سنة ولم يكن اسمها الأول كنيسة (أيا صوفيا)، فقد أخذت ثلاثة أسماء متوالية، وفي عام 537 م احتفل الملك (جوستنيان) بالانتهاء منها، وفي عام 1453 م تحولت إلى مسجد محمد الفاتح، بعد أن اجتاح العثمانيون بيزنطة؛ فأصبحت في ذمة التاريخ بعد أن عمرت ألف سنة ويزيد..
وسبحان من بيده الملك وهو على كل شيء قدير، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء..
وقصة اجتياح بيزنطة لؤلؤة الشرق سردها القاص النمساوي ستيفان تسفايج على نحو مؤثر في كتابه (ساعات القدر في تاريخ البشرية) أن ما مكن الأتراك من احتلالها كانت غفلة عجيبة في نسيان باب صغير مفتوح في جدار السور الثاني الداخلي، فقد كانت بيزنطة مطوقة بثلاثة أسوار، وفي قناعتي أن سقوط بيزنطة كان مسألة وقت، ولكم تمنيت من الأتراك ألا يكونوا قد فتحوها سلما كما فعل أبو عبيدة مع فتح دمشق، وأن لا يكونوا قد حولوا كنيستها مسجدا كما فعل الفاروق مع كنيسة القيامة؟ ولكن الأتراك كانوا فاتحين محاربين أشداء قساة، ولم يكونوا بنفس الروح الرسالية كما كان العرب، أو هكذا أزعم..
ومازالت أسماء الصحابة الكبار معلقة في أقواس البناء عمر وعلي وأبو بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
ومع مجيء (كمال أتاتورك) إلى السلطة وإلغاء الخلافة العثمانية تم تحييد البناء؛ فلم يعد مسجداً أو كنيسة، بل انقلب إلى متحف، وكان اجتهاد أتاتورك على ما يبدو، أن البناء في الأصل كان كنيسة للمسيحيين، ولم يكن مسجدا، والإسلام يقوم على التسامح، ولم يصل عمر رضي الله عنه في كنيسة القيامة؛ خوفا من توهم بعض المسلمين أنها تحولت إلى مسجد بصلاة عمر فيها؛ فيستولوا عليها، فلما حضرته الصلاة رضي الله عنه وبفطنة قام فخرج منها وصلى في الخارج، وكانت حكمة كبيرة من عمر الفاروق.
كما أن أتاتورك لم يشأ أن يعيدها كنيسة، خيفة تأجيج مشاعر المسلمين، فضلاً عن محدودية المسيحيين في تركيا، وارتباطها بتاريخ الأمجاد العثمانية، فمازال الانكشاريون يخرجون كل عام في عدتهم الكاملة وموسيقاهم المتميزة، فيهيجون المشاعر عن مجد تليد، طواه الزمن كما طوى بيزنطة...
وتلك الأيام نداولها بين الناس.
عاش جوستينيان الفترة الذهبية لبيزنطة، وامتدت حدودها إلى حواف الجزيرة العربية، وتخوم بلاد فارس.
ومع انبعاث الإسلام من جزيرة العرب، كانت أول مواجهة مع جند بيزنطة سادة بلاد الشام كانت في معركة مؤتة..
وأجمل ما تركت بيزنطة تحفة أيا صوفيا، فهي أجمل آثارها وأدعاها للدهشة، فقد أنفق على بنائها 320 ألف رطل من الذهب ما يعادل مليار باوند إنكليزي، وهو أغلى مكان بني في التاريخ الإنساني حتى اليوم، وبذا فرغ جوستنيان الخزانة كلها من أجل هذا البناء.
وروعة هذه البناء الهندسية خلفها قصة طويلة، فقد استدعى جوستنيان أعظم عباقرة الهندسة في المملكة، وهما اثنان (انتيميوس) و(ازيدوريس) لبناءها، وفكر الرجلان في بناء يخلده الزمن، فوصلا إلى حل عبقري.
ومن المعروف أن المنطقة أي استانبول الحالية، تجلس فوق صدع زلزالي، فكيف يمكن وضع بناء شاهق لا يضاهيه بناء ولا يتأثر بالزلازل؟
وحتى نعرف عظمة هذا البناء؛ فإن تمثال الحرية الأمريكي يدخل تحت القبة بكل بساطة، ويمكن دفع كنيسة نوتردام الباريسية بهدوء في أحشائها؟! واشتغل عليها عشرة آلاف عامل لمدة ست سنوات كاملة، بكلفة خرافية كما ذكرنا، فلم يدخر جهدا، ولم يقتر في مال، ولم تشح عبقرية طموح، ولم ينفق على بناء في التاريخ حتى الآن ما أنفق عليها وهو نحو ملياري دولار. وأراد المهندسون يومها دمج النموذج الديني بالدنيوي، والمربع بالدائرة، وقاموا بعمل مذهل في القبة، حيث درس (انتيميوس) بناء البارثنيون في روما؛ فلاحظ التصدع تحت العواميد؛ فاستفاد من هذه الظاهرة، ليقلبها إلى مصلحته، بحيث أرسى القبة على مجموعة من النوافذ المفتوحة، لتخفيف الضغط، وأن تدخل الإضاءة على نحو بهيج إلى داخل البناء.
وكان الناس في أيامهم إذا بنوا زادوا في الحجارة؛ فجعلوها أثقل وأقسى، أما هو فعكس النسبة، وسبق الزمن 1500 سنة، بالانتباه إلى أن ما يصمد في الزلازل ليس الثقل، بل الدينامكية والخفة، وهكذا بنيت الكنيسة من مواد خفيفة، أما الملاط فكان من مسحوق الآجر، المخلوط بالرمل والكلس والماء، والعلماء اليوم يجدون فيه نفس صلابته القديمة، كما كان يوم بني وعمر قبل 1500 سنة.
وقام المهندس التركي (أحمد جقمق) من جامعة برنستون بدراسة تحمل أيا صوفيا للزلازل، عندما اهتزت كل استانبول بزلزال عام 1992 م، فوضع أجهزة حساسة في كل البناء، ثم قام بإدخال المعلومات إلى الكمبيوتر، ثم أجرى اختبارا تخيليا؛ فيما لو تعرضت المنطقة لزلزال مخيف من عيار 7.5 ريختر؟!! وكانت النتيجة صمود البناء؟؟
ولكن الاختبار الفعلي جاء في آب (أغسطس) عام م1999 عندما هلك آلاف الناس تحت الأنقاض، ويومها بان في الامتحان الزيف من الحقيقة، فاهتز كل شيء بما فيها أيا صوفيا، ولكن لم يسقط منها حجر، ولم يتصدع جدار ويبدو أنها ستعيش الألف سنة المقبلة آية للمتوسمين وموعظة للغافلين إننا البشر نمضي والتاريخ يخط وعظام كثير من الحضارات تلفها المقابر وهي رميم .. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟؟