المزاح .. ماهيته وأبعاده
المفهوم العام والدارج عن المزاح أنه يجلب الضحك أو على أقل تقدير يبعث على الابتسام، ويضفي جواً من البهجة والسرور. وبهذا المعنى يسهم المزاح في إزالة أو التخفيف من تجاعيد الضغوط والتوتر التي ترتسم على الوجوه. وعلى خلفية ذلك قد يضيف أحدهم أن المزاح بات ضرورة ومطلبا لا غنى عنه في زمن تزداد فيه حدة التوتر ولا يكاد يخلو من المنغصات.. نقول مهلاً قبل أن يتبرع آخر بالقول إن المزاح وصفة سحرية تزيد من تألق الشخص وحضوره (كاريزما) وتكسبه المزيد من العلاقات. فما تقدم ليس أكثر من تعريف نظري عائم وعريض لمفهوم المزاح. أما الواقع العملي والفعلي للمزاح فهو ذو خصائص وجوانب تستحق التشخيص والوقوف عندها ملياً للتعرف وبشكل موضوعي عن ماهية المزاح وأبعاده وكيفية ممارسته والتعامل معه خصوصاً إذا علمنا "وهذا مؤكد" أن سوء استخدامه له آثار وتبعات سلبية وربما خطيرة.
بالأمس القريب قابلت زميلا لم أره منذ أكثر من خمس سنوات ولاحظت عليه تغييراً لافتاً فقد كان مزاحاً يلوك النكات والتعليقات ويوزعها هنا وهناك ودونما مواربة أو تحفظ! وكانت الابتسامة لا تفارقه، وإذا به شخص رصين هادئ متحفظ. فسألته عن سبب ذلك التغيير فأجاب: المزاح على (عواهنه) جرني إلى الكثير من المشاكل وأوقعني في الحرج والتصغير. فقد تعرضت أكثر من مرة للإهانة والتجريح، ولا أخفيك أنني أخذت (علقة) من أحدهم نتيجة مزحة، وكدت أتعرض للمزيد من الأضرار.. وقاطعته متسائلاً هل كنت تعرف هؤلاء جيداً؟ أقصدها مدى العلاقة بينكم التي بموجبها يمكنك معرفة طباعهم وسلوكهم وتحديد درجة تقبلهم للمزاح؟ فبادرني قائلاً للأسف علاقتي بهم سطحية وبعضهم أقابله لأول مرة ومن حينها فقد عاهدت نفسي بألا أمزح إلا مع أصدقائي فقط.. وعاجلته قائلاً حتى المزح مع الأصدقاء وأقرب المقربين يحتاج إلى شيء من الترشيد والتعقل، وظن أنني أبالغ أو أجنح للتشاؤم وسارعت بالقول إن الحالة المزاجية والظرف المكاني يحكمان المزح. والشاهد أن الصديق ليس في كل الأحوال "رايق" ويتقبل المزح، أما عن المكان فالمقصود به الأشخاص الموجودون بصحبة ذلك الصديق فما يتقبله الصديق من مزاح من صديقه مهما كانت درجته وثقله بمعزل عن الآخرين يختلف كثيراً عنه عندما يكون بحضرة أصدقاء آخرين أو أقارب لا يعرفهم ذاك الصديق (المزاح) أو العكس أي يعرفهم المزاح ولا يعرفهم صديقه (المقصود بالمزاح)، وحتى لو تقبل المزح على مضض فقد يترك أثراً سلبياً ومن غير المستبعد أن يؤثر ذلك في علاقتهما. مؤدى القول يجب أن نتفهم جيداً حدود المزاح وأطره، أي مع من وكيف ومتى نمزح؟ كي نجنب أنفسنا والآخرين الحرج والتجريح وربما الفرقة بين الزملاء والأصدقاء وغيره من تداعيات المزح العبثي العقيم. وفي الوقت نفسه لن نحرم أنفسنا والآخرين من رسم الابتسامة الصافية والضحكة البريئة الخالية من الشوائب والضغينة.