الأطباء.. وحق المجتمع عليهم (2 من 2)
ذكرنا في الأسبوع الماضي كيف علينا أن نهتم بالفئات التي تثقل ميزاننا كمجتمع, فوجود العلماء والمفكرين يجعلنا من الأمم المنتجة للعلوم والمبدعة للأفكار وليس من الأمم المستهلكة لها فقط, فوجود المهندسين البارعين وبالأعداد المطلوبة يمهد لنا الطريق للانتقال إلى مصاف الدول الصناعية, ووجود المثقفين الواعين في المجتمع يجعلنا أكثر وعيا بقضايانا وأكثر فهما لمشكلاتنا وأكثر قدرة على استثمار مواردنا وبناء مستقبلنا. ووجود الأطباء في المجتمع وبالعدد الذي يتناسب وحاجات الناس إليه له علاقة مباشرة بصحتهم بشرط أن نوفر لهم البيئة التي تقدر عطاءهم وتعينهم على أداء دورهم. فكان حديث الأسبوع الماضي هو أن للطبيب حقوقا على المجتمع وعلينا كمجتمع أن نتفهم هذه الحقوق وأن نجتهد في تلبيتها, فالطبيب كإنسان وبحكم طبيعة مهنته له من الحقوق المادية التي تتناسب وموقعه المهني والتقصير في تفهم هذه الحقوق يعود بآثار سلبية في نفسية الطبيب, وهذا بدوره ينعكس على ممارساته في مهنته وعمله, وعمل الطبيب في حاجة إلى دقة متناهية وأن تكون الأعمال المصاحبة لعمله متناسقة, وهذه الأمور في حاجة إلى بيئة عمل منظمة تدار من قبل أشخاص يعرفون كيف يقدمون الخدمة والتسهيل لعمل الطبيب, وعلى أن تدار هذه البيئة بأنظمة وهياكل إدارية تسهل عمل الطبيب وتضمن له متطلبات عمله.
في مقابل حقوق الأطباء هناك حق للمجتمع على الأطباء, فممارسة الطبيب مهنته وعمله تمس حاجة للمجتمع, هي على قدر كبير من الأهمية, وهي الصحة, وبالتالي يشعر المجتمع أن من حقه على هذا الطبيب أن يجتهد في خدمته, وأن يخلص له في نصيحته وألا يجعل للأمور المادية سبيلا في تشويه رقي مهنته ونبلها. وفي إطار الحقوق المقابلة يمكن أن نذكر وباختصار بعض حقوق المجتمع على معاشر الأطباء:
1 - الاجتهاد في الخدمة والإخلاص في العمل: إن الطبيب يعرف قبل غيره كيف أن الإهمال وعدم الإخلاص في أداء العمل هو المسؤول عن النسبة الأكبر من الأخطاء الطبية, والخطأ الطبي ليس كغيره من الأخطاء, فهو يعني تفاقم مرض المريض وزيادة معاناته, وقد يعني التسبب في مرض أو مشكلة صحية تضاف إلى مرضه السابق, ويتسبب هذا الخطأ الصغير أو الكبير في إعاقة مزمنة أو تدهور لصحة المريض ربما تنتهي به إلى الموت. فمن حق المجتمع أن يطالب جموع الأطباء بمزيد من الحرص في أداء عملهم, وأن يجتهدوا في اتخاذ الإجراءات والمقدمات التي تقلل من فرص حدوث الأخطاء عندهم. الطبيب هو القائد في عملية التطبيب والمعالجة, وعليه بالتالي مسؤولية التأكد من تعقيم أدواته الطبية حتى لا ينتقل المرض من إنسان إلى آخر, وهذه مشكلة يعرفها الأطباء ولا يفسر وجودها إلا الإهمال. والمطالبة بهذا الحق يبرره معاناة الناس من أطباء لا يأخذون بالإجراءات الطبية المعتادة في تشخيص المرض وتحديد العلاج, وما أقسى هذا الأمر على المريض وهو يعالج من مرض غير مرضه أو يداوى من علة قد تكون غير موجودة عنده أو أنها تركت لتتفاقم لحساب علة غير موجودة, وكل هذه المعاناة تنتفي لو أن ذلك الطبيب كان مجتهدا ولو قليلا في أداء عمله أو لو أنه احتاط في اتخاذ بعض الإجراءات البسيطة قبل أن يصدر حكمه. فكل ما يريده المجتمع من الأطباء في هذا الشأن هو التأني ومزيد من الصبر والحرص في أداء عملهم وألا يجعلوا من المعوقات في عملهم مبررا لسرعتهم أو تقاعسهم في أداء ما هو مطلوب تجاه الإنسان المريض.
2 - الإنسانية في التعامل مع المريض: صحيح أن المريض هو المحتاج وأن طبيعة حاجته تجعله قلقا ومتوترا, وصحيح أيضا أن الطبيب مهنته تقتضي منه التعامل مع أعداد من المرضى, وأنه إنسان له ظروفه ومشكلاته الحياتية, ولكن كل ذلك يؤكد أهمية البعد الإنساني في مهنة الطب. فبعض الأطباء يتعامل بدونية مع المريض ويبدي انزعاجا وتذمرا إذا ما طالب المريض بمعرفة أكثر وشرح أكثر تفصيلا عن مرضه. صحيح أن في ثقافتنا ما يجعلنا نتسلطن في وجه من يحتاج إلينا, ولكن هذا الأمر قد نتقبله بمرارة في غير مهنة الطب, ولكن على الطبيب أن يجعل في نفسه متسعا ليستوعب به تساؤلات وقلق المريض. فمن حق المريض أن يطلب من الطبيب أن يحاوره في كل ما يتعلق بشأن مرضه وأن يدرس معه كل الاحتمالات المتعلقة بالمرض, وأن يوعيه بما سيتخذه من إجراءات للمعالجة, فعندما يمارس الطبيب هذا الحوار الهادئ وهذه التوعية الجادة مع المريض وبأخلاق وارتياح نفسي, فإن ذلك سينعكس على نفسية المريض وسيجعل منه أكثر تجاوبا وتفاعلا مع طلبات الطبيب وتوجهاته.
3 - عدم الاستغلال والمتاجرة بحاجة المريض: ليس هناك أكثر من المرض ما يثير قلق الإنسان وخوفه, ومن اللاإنسانية المتاجرة والاستغلال المادي لهذا الخوف, وهذا ما تجده ـ مع الأسف ـ عند بعض الأطباء الذين لهم رجل في المستشفى العام والرجل الأخرى في المستشفيات والعيادات الخاصة. هناك مع الأسف بعض الأطباء يتخلون عن ضميرهم وينزعون لباس إنسانيتهم عندما يجعلون من المرض والمريض وسيلتهم للغنى والتجارة, فهؤلاء الأطباء الذين يعملون في المستشفيات الخاصة ورضوا لأنفسهم بأن يعملوا بالنسبة فإنهم بذلك يضحون بمرضاهم, فالطبيب يجتهد في تحميل المريض ما ليس هو في حاجة إليه من فحوص مختبرية وأدوية, وكل ذلك تحت مبرر زيادة الرزق (الحرام). فمن حق المجتمع على الطبيب أن يتنزه في عمله ومهنته عن هذه الممارسات, وأن ينظر للمريض على أنه إنسان وليس سلعة يريد أن يربح بها.
4 - القدوة والمشاركة في التوعية: نحن شعوب في حاجة إلى نماذج عملية تقدم لنا الوعي والقيم التي نريد أن نؤسسها في مجتمعنا, ونحن في حاجة إلى الوعي الصحي المبني على أسس علمية وبعيدا عن الأوهام والخرافات والدعاوى غير الصادقة. فدور الطبيب التوعوي مكمل لدوره العلاجي, وهو بالتالي مطالب بأن تكون له مساهمة ملموسة في توعيتنا كمجتمع. فمجتمعنا اليوم يعاني مشكلات عدة وتوعيتنا بهذه المشكلات وقاية لنا من الوقوع فيها وإعانة للمبتلى بها في كيفية التعامل معها, فالسمنة وما تسببه من أمراض مثل السكري والضغط, وما تمثله اليوم هذه الأمراض من خطورة على مجتمعنا هي حقا في حاجة إلى أطبائنا للخروج من عياداتهم والنزول إلى المجتمع لتوعيته بها, فلكلمة الطبيب وقع خاص في آذاننا, وعلى الأطباء استثمار هذا الامتياز في خدمتهم مجتمعاتهم. فمن حق المجتمع أن يطالب بألا يرى طبيبا مدخنا أو سمينا أو لا يعير الاهتمام للجوانب الوقائية في حياتنا.
وأخيرا فإن من حق الطبيب علينا أن نحفظ له مقامه وأن نقدر له جهده وعمله, وبأداء هذا الحق له نستطيع أن نحتفظ به, لأننا نعيش في عالم بلا أسوار وبلا حدود, وفي مقدور أي مجتمع أن يستقطب الطبيب الماهر والكفاءات المماثلة له إن عجزت شعوبها وأوطانها عن أن تحتفظ بها وأن توفر لها البيئة التي تتناسب وكفاءتها. وعند الوفاء بحقوق الأطباء عندها يحق لنا كمجتمع أن نتطلع إلى أطبائنا لأن عملهم وموقعهم له دور كبير في تنميتنا والارتقاء بنا كمجتمع.