الميزانية الأكبر والأكثر تحدياً

الميزانية الأكبر والأكثر تحدياً

يأتي إعلان الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1429/1430هـ في وقت عصيب يعاني فيه العالم أجمع أزمة مالية فريدة من نوعها تاريخياً. إذ شهد العالم منذ منتصف عام 2007 تغيرات جذرية في هيكلية القطاع المالي والمصرفي أدت إلى سقوط عمالقة في عالم الاستثمار كـ "بيرن ستيرنز" و"ليمان برذرز" وعملاق التأمين "أي آي جي", ما أدى إلى انتشار هذه الأزمة إلى الدول الأخرى نتيجة لترابط الاقتصاد العالمي بشكل كبير. ولم تلعب السياسات النقدية غير المسبوقة التي اتبعتها الدول جميعها بما فيها الولايات المتحدة دوراً كافياً في تخفيف آثار هذه الأزمة، ما أثار تساؤلات كثيرة حول جدوى تخفيض أسعار الفائدة مجدداً إلى مستوى يقارب الصفر.
ومن هذا المنطلق تبرز أهمية السياسة المالية ودورها في ترميم ما لم تستطع السياسة النقدية ترميمه لدورها القوي والمباشر في حفز النمو الاقتصادي. وعلى هذا كان الالتزام الذي قدمه خادم الحرمين الشريفين في اجتماع قمة العشرين باستمرار الإنفاق الحكومي على مستوياته الحالية مهما ومتفقاً مع الرؤية التي يتبناها كثير من الاقتصاديين المؤثرين في المجال الاقتصادي. حيث يلعب الإنفاق الحكومي دوراً كبيراً في حفز الطلب العام (طلب الأفراد والشركات) ومن ثم تحفيز النمو الاقتصادي.
والتزاماً بهذا النهج ، صدرت تقديرات الميزانية السعودية لتظهر زيادة في الإنفاق المتوقع مقدارها 65 مليار ريال عما قدر في العام الماضي, وبإنفاق قدر بما قيمته 475 مليار ريال. أما بالنسبة للعجز في الميزانية فيتوقع أن يبلغ العام المبلغ ما قيمته 65 مليار ريال مقارنة بفائض متوقع العام الماضي قدر بـ 40 مليار ريال. وعلى الرغم من أن هذه البيانات تعكس التقديرات المتحفظة لأسعار البترول للعام المقبل مقارنة بتقديراتها للعام الماضي إلا أنها تظهر زيادة في مستوى الإنفاق الحكومي, الأمر الذي يؤكد الالتزام بالرؤية التي قدمها خادم الحرمين الشريفين خلال مؤتمر قمة العشرين.
أما من حيث الفائض المحقق من العام الماضي فقد بلغ 590 مليار ريال بما يمثل زيادة مقدارها 550 مليار ريال على ما هو مقدر، ولتبلغ معه الإيرادات الفعلية ما قيمته تريليون و100 مليار ريال. وهذ يجعل ميزانية عام 2008 الأعلى من حيث قيمة الإيرادات الفعلية، كما أن ميزانية 2009 تعد الأعلى من حيث تقديرات الإنفاق العام البالغة 475 مليار ريال.
وعلى مستوى الإنفاق القطاعي, فقد أظهرت الميزانية التقديرية للعام المقبل زيادة في الإنفاق المقدر على كل القطاعات ومن دون استثناء. وأبرز هذه الزيادات الزيادة في الإنفاق المقدر على قطاع التعليم والتدريب, التي بلغت 17 مليار ريال والزيادة في الإنفاق المقدر على قطاع الصحة التي بلغت قرابة تسعة مليارات ريال. هذه الزيادات ستلقي بظلالها الإيجابية على النمو الاقتصادي للعام المقبل, كما ستسهم في التخفيف بشكل كبير من آثار الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد المحلي.
أسواق النفط العام المقبل ستمثل تحدياً كبيراً للاقتصاد السعودي وستحدد بشكل كبير مستوى العجز الفعلي (أو الفائض) في الميزانية السعودية. وهي تؤثر في مستويات الإنفاق الحكومي من جانبين, كلاهما يصبان في خانة الإيرادات. فمن جانب الأسعار المنخفضة ومن جانب آخر الانخفاض في مستويات الإنتاج وآخرها التخفيض الذي أعلنته "أوبك" بمقدار 2.2 مليون برميل يومياً. لذلك فإن بناء تقديرات الميزانية السعودية على توقعات متحفظة لمستويات أسعار النفط يعد أمراً مهما لخلق نمو متوازن للاقتصاد ولكي لا ينعكس أي عجز غير متوقع على مستويات الثقة بين الأفراد والمستثمرين.
وفيما يتعلق بالمستثمر المحلي فإن إعلان الميزانية العامة للدولة يزيل جانباً كبيراً من القلق الذي يساور المستثمرين بشأن انخفاض الطلب المحلي وتراجع مستويات الاستهلاك. لذلك فإن الترقب بين أوساط المستثمرين للأوضاع الاقتصادية لن يكون ترقباً لما سيحدث في الداخل ولكن لما سيحدث في الخارج وللكيفية التي ستتعامل معها الدول الكبرى مع الأزمة الاقتصادية العالمية. فعودة أسعار النفط إلى مستويات مقبولة سيكون مرهوناً بدرجة كبيرة بالتحسن في مستويات الاستهلاك في الاقتصادات الغربية, التي تلعب دوراً كبيراً في زيادة الطلب على النفط, ومن ثم في ارتفاع أسعاره.

الأكثر قراءة