آفاق المستقبل الاقتصادي في أمريكا اللاتينية
من الأوضاع الأربعة التي غذت الطفرة في قارة أمريكا اللاتينية واستمرت طوال الفترة من عام 2004 إلى منتصف عام 2008، ولا يزال هناك وضع واحد قائم، وهو سهولة النفاذ إلى التمويل الخارجي. ورغم أن أصداء انهيار مؤسسة ليمان براذرز أدت في الأساس إلى سد طرق التمويل من الأسواق الرأسمالية الخاصة إلا أن ذلك لم يدم أكثر من عام تقريبا، وبعد ذلك حدثت ارتدادة إيجابية كبيرة في إمكانية نفاذ أمريكا اللاتينية إلى الأسواق الرأسمالية الدولية. فقد زادت إصدارات السندات السنوية لأمريكا اللاتينية بنحو ثلاثة أضعاف إلى 9.6 مليار دولار شهريا خلال الفترة 2010 - 2014 مقارنة بالإصدارات البالغة 3.5 مليار دولار خلال الفترة 2004 - 2007، وظلت تكاليف التمويل منخفضة للبلدان التي أصدرت سندات في أسواق رأسمالية خاصة دولية. ويعزي بعضنا التمويل الجيد إلى انخفاض نسب الديون وتوافر سيولة كبيرة "نقدية" في الأسواق المالية العالمية نتيجة للسياسات النقدية التوسعية التي تتبعها اقتصادات متقدمة رئيسة تسعى إلى إعطاء دفعة لاقتصاداتها التي لا تزال ضعيفة. ولم تكن أزمة اليورو 2011-2012 أو قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تدريجيا بخفض مشترياته من السندات، أو حتی صدمات السلع الأولية عام 2014 سوى آثار محدودة في قدرة أمريكا اللاتينية على النفاذ إلى الأسواق المالية العالمية. وعلاوة على ذلك، فإن البلدان القليلة التي تفتقر إلى إمكانية النفاذ إلى الأسواق الرأسمالية الخاصة العالمية -الأرجنتين والإكوادور وفنزويلا- حصلت على تمويل كبير من الصين. ويمكن بالطبع أن تتغير الأوضاع المالية العالمية بالنظر إلى أوجه عدم اليقين الجديدة التي تكتنف منطقة اليورو في مواجهة الأزمة اليونانية أو إذا أدى تحول السياسة النقدية الأمريكية إلى إبعاد أموال الاستثمار عن المنطقة، لكن في وقت إعداد هذا المقال ظلت إمكانية نفاذ أمريكا اللاتينية إلى الأسواق الرأسمالية العالمية مواتية.
ليس بوسع أمريكا اللاتينية أن تعتمد حصريا على الأوضاع الخارجية المواتية لدفع النمو الاقتصادي في المستقبل القريب، لكن يتعين عليها أن تهيئ الظروف المواتية بنفسها. ومن هنا تأتي ضرورة الإصلاحات.
إلا أنه يتعين أن تتجاوز هذه الإصلاحات مناهج السوق التقليدية التي كانت متبعة في الثمانينيات والتسعينيات. والحقيقة التي يصعب تغييرها هي أن إصلاحات الأسواق لم تحقق نموا اقتصاديا قويا. وفعليا، فإن نمو إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة 1991-2014، عقب الإصلاحات السوقية، بلغ 3.2 في المائة سنويا، مقارنة بنسبة 5.5 في المائة خلال الفترة التي كان تدخل الدولة فيها أكبر، في الفترة من عام 1946 إلى عام 1980. وقد أعاق ضعف الإنتاجية الأداء الاقتصادي، وافتقر النمو المنطقي إلى الاستقرار.
وأحد التفسيرات الأساسية لهذا الأداء الاقتصادي الباهت طويل الأجل هو عدم إيلاء اهتمام كاف لتحسين التكنولوجيا في قطاع الإنتاج، والابتعاد بدرجة كبيرة عن التصنيع، وتخصص المنطقة في السلع "خصوصا السلع الأولية" التي لا تتيح سوى فرص محدودة للتنويع وتحسين جودة المنتجات. وقد عزز من ذلك نمو التجارة مع الصين، التي تستورد من أمريكا اللاتينية بصورة شبه كاملة سلعا قائمة على الموارد الطبيعية. وكانت النتيجة الصافية للاعتماد على فرص التصدير التقليدية اتساع الفجوة التكنولوجية، ليس فقط مع الاقتصادات الآسيوية الديناميكية، وإنما أيضا مع الاقتصادات المتقدمة كثيفة الاستخدام للموارد الطبيعية مثل أستراليا وكندا وفنلندا.
ومن الضروري إذن أن تستثمر المنطقة في تنويع هيكلها الإنتاجي وتضع التغير التكنولوجي في قلب استراتيجيات التنمية طويلة الأجل. وينبغي ألا يشمل ذلك فحسب العودة إلى التصنيع، وإنما بالقدر نفسه من الأهمية تحسين تكنولوجيا إنتاج الموارد الطبيعية وتطوير خدمات حديثة. كما أن تنويع التجارة مع الصين بعيدا عن السلع الأولية عنصر ضروري آخر في هذه السياسة. وثمة ضرورة حاسمة إلى التركيز على التكنولوجيا الجديدة لزيادة القدرة التنافسية، بالنظر إلى آفاق ضعف النمو في التجارة العالمية.
إلا أن زيادة الصادرات ليست هي السبيل الوحيدة لانطلاق المنطقة. فخفض مستويات الفقر وزيادة الطبقة المتوسطة يوفران فرصا للأسواق المحلية أيضا. وأفضل السبل لاستغلال الأسواق المحلية الأكثر ثراء هو التكامل الإقليمي إلا أن ذلك يتطلب بدوره التغلب على الانقسامات السياسية الكبيرة التي حالت دون إحراز تقدم في مجال التكامل الإقليمي على مدى العقد الماضي. وعلى وجه الخصوص، بعد النمو القوي الذي تحقق في التجارة بين بلدان المنطقة في التسعينيات داخل عمليتي التكامل الرئيستين في أمريكا الجنوبية -السوق المشتركة لبلدان المخروط الجنوبي "ميركسور"، التي ضمت في بادئ الأمر الأرجنتين والبرازيل وباراجواي وأوروجواي، وجماعة دول الأندية التي تضم بوليفيا وكولومبيا والإكوادور وبيرو، كان الأداء ضعيفا إلى حد ما.
ومن منظور الاقتصاد الكلي، فإن الوضع الأهم لتنويع الإنتاج بوتيرة أكثر ديناميكية هو وجود أسعار صرف حقيقية لها قدرة تنافسية أعلى ودرجة تقلب أقل. وينبغي أن يكون ذلك جزءا من تحول أقوى تجاه السياسات الاقتصادية الكلية للاستناد إلى الطفرات وفترات تباطؤ النمو والحد من تقلب النمو الذي اتسم به ربع القرن الماضي.
ويتعين على المنطقة أيضا أن تحرز تقدما رئيسا في مجالين آخرين، هما جودة التعليم والاستثمار في البنية التحتية. فدون تعليم أفضل، ستظل اختناقات المعروض من العمالة المدربة تدريبا جيدا تكبح التقدم التكنولوجي اللازم للمنطقة. أما ضعف البنية التحتية فيتطلب بدوره ضخ استثمارات أكبر بكثير في الطرق السريعة والموانئ والمطارات، أي زيادة مستويات الاستثمار الحالية بمقدار الضعف على الأقل، حسب بنك تنمية أمريكا اللاتينية "2014". وينبغي أن تستفيد هذه الاستثمارات من الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإن كان ينبغي أيضا وبدرجة أكبر أن تدعو إلى ضخ مزيد من أموال القطاع العام.
وينبغي أن يوضع جدول أعمال الإصلاحات موضع التنفيذ. والمسألة ليست مسألة إصلاح الأسواق -بالمعنى المقصود عادة من كلمة "إصلاحات" في مناقشات السياسات- وإنما هي تحقيق مزيج أفضل بين الدول والأسواق. ويجب بالطبع أن يؤدي هذا المزيج إلى توطيد التقدم الاجتماعي وتعزيزه، وهو الإنجاز الأهم للمنطقة على مدى العقد الماضي.