محوى الأخدام
(1) سفِّير .. وفساخ .. وبُردُقَان
بوعي وقصدية، اختار علي المقري موضوع روايته (طعم أسود .. رائحة سوداء) ولكن يبدو أن شخصياته الطافحة بالحياة هي التي قادته إلى الأقاصي، أي إلى حيث ينوء (الأخدام) بعذاباتهم وأوجاعهم، فقد أراد من خلال تسليطه الضوء على تاريخ وواقع السود في اليمن، أن يدوّن سجلاً اجتماعيا يراكم في ثناياه ما أمكن من عاداتهم وتقاليدهم وأغانيهم وأمثالهم الشعبية، حتى صار أقرب إلى تقديم بحث أناسي أشبه ما يكون بالوثيقة الحقوقية الاجتماعية، منه إلى "تحبيك" ما جمعه من مادة إكزوتيكية ثرية وصادمة في قالب روائي عن شريحة بشرية تعيش تحت القاع الاجتماعي، أو خارج مقياس التراتبية الطبقية، لدرجة أن (سرور) الذي لم يتعب من البحث عن دور سياسي للأخدام، طالب بامتلاك حقهم في العبودية "نحن لسنا عبيداً، العبيد أفضل منّا بكثير فهم أعلى منّا درجة" أو كما تم اختصار واقعهم البائس، وقسوة التمييز العنصري ضدهم في أغنية تتردد على الأفواه كحتمية إقصائية "لا يغرك حسن الأخدام .. النجاسة في العظام".
ويبدو أن استسلامه لممليات القاع الاجتماعي، بما هو مرجعية سوسيولوجية جامعة لأغلب الأعمال الإبداعية في اليمن، لم يجعل من ذاته الواعية تطفو على النص، حتى الإلتماعات الأيدلوجية المبثوثة في ثنايا النص، لم تجعل من حضوره فاقعاً، ولا ساطياً على شخصياته، وإن كان سرده الإخباري، يبين عن انحياز واحتفاء بتلك الفئة الاجتماعية المقهورة، كما يفصح عن دراية مبيّتة بأن انتصاره لهذه الفئة المهمّشة، يمر عبر إعلاء النبرة الحقوقية، وتسجيل الإدانة ضد مفاعيل السلطة بكل تمثلاتها السياسية والدينية والاجتماعية، الأمر الذي يفسر انكتاب الرواية على خلفية أحداث سياسية عاش اليمنيون مخاضاتها بمرارة، كما يتبين من فصولها المعنونة بتواريخ ذات مغزى، كحركة (إبراهيم الحمدي) التصحيحية في 13 حزيران (يونيو)، حيث تم ربط الشخصيات المنتمية للأخدام بتلك الأحداث، كشخصية (رباش العبد) الذي تم استهلال الرواية في تبرئته من الخيانة في قاعة المحكمة إثر مفارقة توحيد شطري اليمن، وانقلاب مفاهيم وموازين الولاء والوطنية، الأمر الذي أسقطه في العدمية بعد خروجه من السجن، وكذلك شخصية (بهجة) ابنة إحدى القيادات الحزبية في عدن أيام علي سالم ربيع (سالمين) الذي رفع رؤوس الأخدام، حيث جاءت في مهمة ثورية سرية لتنظيمهم واستمالتهم لحركته، واختفت أو تمت تصفيتها في ظروف غامضة، يوم كانت الهتافات تتعالى " سالمين قدّام قدّام .. سالمين ما احناش أخدام"
هكذا وهب علي المقري لتلك الفئة المهمّشة لساناً عبر روايته، فقد تسيّد المكوّن اللغوي مجمل السرد، من خلال خصوصية قاموسية يمكن بواسطتها الاستدلال على الطبائع الروحية والخصائص المادية لهذا الفصيل البشري المنسي، حيث لعبة (السفِّير) ذات الطابع الجنسي، التي يتواطأ الرجال والنساء على التباري فيها لسرقة قسط من المتعة الجسدية المحرّمة، وحيث (الفساخ) الاسم التشفيري للخمر الذي يعقب طقس تخزين القات، وحيث (البُردُقان) أو الطحين التبغي الخاص الذي يؤخذ كشمّات، كما يتم تعاطي كل تلك المتوالية الحياتية في محل تكدّسهم الاستثنائي (المحوى) كما عنونته (الدغلو) بكل اعتزاز لمضيفتها عندما سألتها اسم مدينتهم "نسميه محوى مش مدينة، محوى زين" بكل ما يحمله هذا الحاضن، من دلالات التناقض الحادة مع المدينة المحقّرة في خطاب الأخدام الذين "يسمون المدينة أمبو" وما يثيره هذا الملاذ من علامات التماثل مع الرحم الاجتماعي، أو المأوى بمعناه المتقشف، وكانت تقصد العشش وبيوت الصفيح والكرتون العشوائية في مستنقع (عصيفرة) رغم أن (الحرتوش) أسطورة المحوى الجنسية والسياسية، المتقمص لدور روبن هود، يرفض إطلاق صفة (أمبو) على المدينة، أو على كل من ليس بأسود، فمن مصلحة الأخدام، حسب اعتقاده السياسي "العمل من أجل نشر فكرة التعايش".
الكتب والدراسات تستعرضهم كتواريخ وأحداث، ولكن شخصيات علي المقري تمتلك من الحصانة التاريخية، ومن العناد النفسي ما يكفي للسخرية من الروايات بما تستنفذه من لحمها ودمها وكرامتها، وبما تختزنه من طاقة الدفاع عن آدميتها، فحسب استقصاءاته التي سجل بعضاً منها بما يشبه التقرير الصحافي، حيث أحال الرواية إلى نضخة معلوماتية، يرجعهم بعض الباحثين إلى أصول إفريقية. وقد جاؤوا إلى اليمن مع مجيء الأحباش الأثيوبيين، فيما ينسبهم البعض إلى أصول يمنية فهم أحفاد الحميريين القدماء. ويذهب آخرون إلى أن أصولهم هندية. وهناك من يقول بأنهم أسرى لجيش الملك سيف بن ذي يزن. وهي اجتهادات لا تعني (الأخدام) شيئاً، حيث يفند أكبر مثقفي المحوى (سرور) كل تلك الجدالات التي لا طائل من ورائها بعبارات تمتد بامتداد الرواية فيما يشبه أيدلوجيا الفقراء "ما يشتو لما يسألوا عن أصولنا. يشتو ترقيتنا من أخدام إلى ناس مثلهم. ما يكفيش أننا أخدام. لماذا لا يقرأون تاريخ أبي الطامي الملك جياش بن نجاح (المفيد في أخبار زبيد) أو (الحوليات السوداء) و (ما لم تقله الأخبار) و (كتاب الفنون). يقرأون ما يكتبون فقط ويبيدون تاريخ غيرهم ... هذا كلام أمبو..هم يقولوا هذا..يختلفوا إذا كنا من أصول إفريقية أو يمنية..هل نحن من الإنس أم من الجن..ليقولوا ما يقولوا..ليقولوا إننا خلقنا أو جئنا من جُحْر الحمار. هذا لا يهم. لانهتم إذا كنا من أصل الذهب أم من أصل ...".