طاقة مُعتدلة الثمن أم تضخم لا يستثني الفقراء؟
طاقة مُعتدلة الثمن أم تضخم لا يستثني الفقراء؟
من أبرز تداعيات الأزمة المالية الدولية تأثيرها السلبي على سعر برميل النفط الذي فقد أكثر من 50 في المائة من سعره في الأشهر الثلاثة الماضية. التقييم الأوَّلي لهذا التراجع لدى الكثير من مواطني دول الأوبك هو تعرض اقتصادات بلدانهم للتباطؤ و الموازنات لنقص حاد من شأنه التأثير سلباً على استمرار برامج التنمية ويضع الحكومات أمام تحديات الحفاظ على معدلات دخول مرتفعه تفي بمتطلبات التنمية وتفيض لتبني احتياطيات.
خفض الإنتاج
المواطن السعودي قد لا تبتعد هواجسه عن هذه المخاوف التي تغذيها آلة إعلامية تطالعه يومياً صباح مساء بأنباء المزيد من تدني أسعار سلعته الوطنية الاستراتيجية وضغوط الدول الصناعية الهادفة إلى إثناء "أوبك" عن خفض إنتاجها لإحداث المزيد من التدهور في الأسعار.
المصلحة الوطنية
هنا يبرز التساؤل الأهم الذي ينبغي التوقف عنده بالكثير من التحليل والتأمل، أين تكمن مصلحتنا الوطنية؟ وهل نُفضِّل عوائد نفطية مرتفعة تجلب معها ضغوطاً تضخمية محلية لا تستثني الفقراء، تؤدي إلى تخفيض القيمة الشرائية للريال وترفع تكلفة المعيشة وتزيد أسعار السلع وأجور الخدمات، أم نُريد سعراً مُعتدلاً يُلبي متطلباتنا التنموية ويُحافظ في الوقت ذاته على مصالح شركائنا التجاريين الاستراتيجيين ويُسهم في التخفيف من حِدة ركود الاقتصاد الدولي.
وثمة بُعد آخر للموضوع يتمثل في أن سعراً معتدلاً لبرميل النفط من شأنه مراعاة إمكانات الدول الفقيرة والأكثر فقراً – ومن ضمنها العديد من البلدان الشقيقة والصديقة - التي لا تحتمل أوضاعها الاقتصادية نفطاً مرتفع التكلفة في الوقت الذي لا تستطيع فيه الاستغناء عن أهم مصدر للطاقة في عالم اليوم.
آلية التسعير
السؤال السابق يقودنا لتساؤل أصعب يتعلق بآلية تسعير النفط وأسباب الصعود القوي لسعره خلال العامين الماضيين، وهل كانت بسبب نمو حقيقي على الطلب أم نتيجة لعوامل ظرفية أدى تغيّرها إلى انحدار سريع على الأسعار أخيرا؟ إن فهم ذلك سيساعد كلاً من المُنتجين والمستهلكين على التعاون البنَّاء من أجل التوصُّل إلى سعر "عادل" يُرضي المُنتجين ولا يضر بالمستهلكين.
ولعل عدم استجابة أسواق البترول لقرار "أوبك" الأسبوع الماضي بتخفيض سقف الإنتاج بواقع 1.5 مليون برميل وتراجع سعر الخام بنحو 7 في المائة في اليوم نفسه الذي أقرَّ فيه خفض سقف الإنتاج، يُجيب عن التساؤل السابق ويكشف عن أحد أبرز أسباب الصعود القوي وغير المبرر لأسعار البترول على مدى العامين الماضيين والمتمثِّل في المُضاربين المُحترفين الذين حولوا النفط من مصدر للطاقة إلى سلعه تجارية يتم احتكار عقود مبادلاتها المستقبلية لتحقيق أرباح ضخمة وسريعة تضر بأطراف المعادلة الدولية للنفط كافة.
إيجابيات الأزمة
إذا كانت الأزمة المالية الدولية قد ترتّب عليها انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي فإن للأزمة أيضاً جانبها المُشرق، حيث أعادت إلى سوق النفط عاملي العرض والطلب باعتبارهما العاملين الأكثر أهمية في تحديد اتجاهات الأسعار، وإن كان ذلك لا يعني بطبيعة الحال التقليل من أثر العوامل الأخرى المؤثرة في أسعار النفط كالمتغيرات الاقتصادية، ومعدلات النمو، وحجم المخزونات، وتوافر بدائل الطاقة بأسعار مُنافسة، والحالة المناخية، هذا فضلاً عن مدى تجاوب المُصدِّرين من خارج "أوبك" مع قرارات المنظمة الخاصة بسقف الإنتاج.
الثقة بالحكومة
على ضوء ما تقدم فإنه لا ينبغي على السعوديين القلق كثيراً من تراجع أسعار النفط لأكثر من سبب، في مقدمة تلك الأسباب توافر الثقة في قدرة الحكومة على المضي قدماً في طرح وتنفيذ برامج التنمية والمشاريع الرئيسية بفضل الفوائض المالية التي تم بناؤها في السنوات الماضية التي تتم إدارتها بحكمة وتجنيبها مخاطر الأزمة الدولية الراهنة.
أيضاً فإن نتائج الإجراءات القوية التي اتخذتها الدول الصناعية الرئيسية لمواجهة الأزمة ستبدأ في الظهور في فترة زمنية قد لا تتجاوز ستة أشهر أي في الربع الثاني من العام المقبل 2009، وحينها يكون أسوأ ما في الأزمة قد انقضى وستعاود الاقتصادات الرئيسية نموها وإن بشكل محدود إلا أن ذلك سينعش الطلب على النفط وينعكس إيجابا على أسعار الخام وصولاً إلى سعر عادل من وجهة نظر طرفي المعادلة.
صياغة نظام جديد
من المؤمَّل أن يُفلح النظام المالي الدولي الجديد الذي تتم صياغته حالياً من قبل الدول الصناعية الغنية، في تحرير أسواق النفط من المُمارسات المضاربية التي صعدت بالأسعار إلى مستويات لا تعكس حجم الطلب العالمي ولا تصب في مصلحة اقتصاد المجتمع الدولي، وهو الأمر الذي سيدفع بالأسعار نحو الاستقرار قبل أن تعاود ارتفاعها التدريجي انطلاقا من قاعدة العرض والطلب.
وثمة عامل آخر يدعو السعوديين إلى المزيد من الاطمئنان ذلك هو مكانة المملكة في سوق الطاقة الدولية بوصفها أكبر مُنتج في العالم وآخر الدول التي ستظل محتفظة بقدراتها الإنتاجية في الوقت الذي ستنضب فيه موارد المُنتجين الآخرين هذا فضلاً عن حصة الإنتاج السعودي داخل "أوبك" التي تؤهلها للعب أدوار مهمة.
مكانة "أوبك"
وعلى الرغم من تراجع حصة "أوبك" إلى 30 في المائة من الإنتاج الدولي، يُخطئ من يعتقد أن المنظمة العتيدة فقدت قدرتها المؤثرة في اتجاهات أسعار الطاقة وكل ما في الأمر هو أن "أوبك" لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة البترولية الدولية كما كانت في سبعينيات القرن الماضي بعد انضمام مُنتجين مؤثرين إلى قائمة المُصدِّرين البارزين خارج المنظمة، إلا أنها ستظل رقماً فاعلاً في معادلة الطاقة لأعوام كثيرة مقبلة.