إنذار مبكر.. أم تدخل سريع!
"النمو لمجرد النمو هو مبدأ الخلية السرطانية"
الكاتب الأمريكي إدوارد آبي
ذكرتني دعوة رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون، لتأسيس نظام "إنذار مبكر" للاقتصاد العالمي، بنظام الإنذار المبكر الذي وضعته الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل، لمواجهة صواريخ "سكود" التي كان يطلقها "بصبيانية" خلال حرب تحرير الكويت، رئيس العراق المخلوع - الراحل صدام حسين. فهذا النظام لم يحصن إسرائيل، ولم يحقق لصدام الأهداف المرجوة، لأن نية هذا الأخير، لم تكن مواجهة الدولة العبرية ومساعدة الفلسطينيين، بل كانت تنصب على خلط الأوراق.
واستعراضا لأحداث التاريخ الكبرى، أجد صعوبة في وضع اليد على حالة واحدة ، نجح فيها نظام الإنذار المبكر في الحيلولة دون وقوع كارثة أو أزمة - سواء أكانت طبيعية أم بشرية، فقد كان هذا النظام أقرب إلى الوهم منه إلى الفعل. بل إن العالم كان سيشهد في منتصف الثمانينيات اندلاع الحرب العالمية الثالثة، عندما تلقى نظام الإنذار المبكر السوفياتي، معلومات عن قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعملية واسعة لضرب أكثر من خمسين هدفا ضمن نطاق الاتحاد السوفياتي السابق بالأسلحة النووية. وعلى الفور فتحت حقيبة الأزرار النووية، ووضع الزعيم السوفياتي الأسبق يوري أندروبوف أصابعه عليها للرد على "الأوغاد". ونظام الإنذار المبكر الغربي التقط الاستعدادات السوفياتية، وفتح الرئيس الأمريكي وقتها رونالد ريجان حقيبة أزراره. لكن في الحقيقة كانت عملية (الناتو) ورقية - أو لنقل وهمية. ومن المفارقات أن مخبرين من كلا الطرفين "السوفياتي" و"الأطلسي" تمكنوا من الوصول إلى حاملي الحقيبتين، ووضعوا أمام أندروبوف، الحقيقة الوهمية لعملية (الناتو)، وقدموا لريجان المعلومات المؤكدة بأن موسكو جهزت صواريخها النووية للرد، وليس لشن الحرب.
لاشك في أن دعوة براون لإنشاء "نظام الإنذار المبكر"، تحمل الكثير من المسؤولية. وللإنصاف فإن الرجل الذي يعد من أكبر الخبراء الاقتصاديين في العالم الغربي، لبقائه عشر سنوات في منصب وزير المالية في بلاده، ولنجاحه في مهامه الوزارية، استطاع أن يظهر - وقت الأزمات - الحكمة المطلوبة، والقيادة الضرورية، بل إن طريقة علاجه آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، رفعت من حجم التأييد الانتخابي له في بلاده، بعد أن وصل مستوى هذا التأييد إلى الحضيض.
لكن القضية ليست هنا، كما أنها ليست في صواريخ صدام الصبيانية، وليست أيضا في الفاجعة التي كادت تقع في منتصف الثمانينيات، بل هي في صميم الإصلاحات الاقتصادية العالمية المطلوبة، وفي قلب التعاون الدولي في هذا المجال، وهي أيضا في مركز السياسات الاقتصادية، بل لنقل المفاهيم القديمة والجديدة لإدارة الاقتصاد. لقد بدا واضحا أن الأزمة الاقتصادية الحالية الوليدة من الأزمة المالية، لم تكن لتظهر على الأرض، لولا التساهل السياسي الغربي، في حركة القطاعات الاقتصادية، ولاسيما المالية منها، فقد استبعدت الضوابط لأجل تكريس تجربة "اقتصاد السوق"، وكان الهدف هو تحقيق النمو، أي نوع أو مستوى من النمو؟ لا يهم، المهم أنه يتحقق، وأن القادة السياسيين يحققون المكاسب الانتخابية الواحدة تلو الأخرى، ويجلسون على كراسيهم لدورات متتالية. لقد أثبتت التجارب - ونحن نعيش الآن واحدة من أسوئها - أن الضوابط الغائبة عن " اقتصاد السوق"، تخلف غولا يصعب الوقوف في وجه، كما تستحيل مقاومته قبل أن يفعل فعله. فوزير المالية - أي وزير - مهما بلغت براعته الاقتصادية، يتحول في مثل هذه الحالة إلى مراقب، ومضارب البورصة - أي مضارب- يتحول إلى مقامر، ومالك العقار الذي يسكنه بالرهن يتحول إلى لاجئ، وصاحب المعاش التقاعدي يتحول إلى خائف، والمستهلك يتحول إلى مقتصد.
لقد اعترف قادة غربيون يمينيون بأنه ينبغي إعادة صياغة مفهوم "اقتصاد السوق"، بل ذهب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أبعد من ذلك، عندما أعلن عن موت هذا النوع من الاقتصاد، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية الحالية، ومن هنا يصعب الاعتقاد بأن "نظام الإنذار المبكر" الذي يقترحه براون، يمكن أن يطلق "زمامير" الخطر، قبل الإعصار، ويمكن أن يحمي المؤسسات المالية، قبل الزلزال، ويمكن أن يضع علامات على الطريق قبل الكارثة، ويمكن أن ينفخ قوارب النجاة قبل الغرق. المطلوب هنا تدخل سريع - ولنقل مبكرا - لا "إنذارا مبكرا"، والمطلوب ضوابط واضحة، لا حرية هائمة، المطلوب وضع آليات جديدة ومتجددة، لإدارة الاقتصاد العالمي، تتضمن هوامش يتحرك ضمن نطاقها الرؤساء التنفيذيون للمؤسسات المالية والمصارف. وقبل هذا وذاك المطلوب سياسة اقتصادية، تضع النمو على رأس أولوياتها - ومن يقل عكس ذلك؟ - لكن ينبغي أن يكون النمو متماشيا مع ثروات المجتمع الحقيقية، لا الوهمية أو الورقية.
وإذا كان هدف " الإنذار المبكر" الذي طالب به براون، هو التنبيه إلى حركة انسياب الأموال بين مختلف المراكز المالية في العالم، فلماذا لا تنشأ آليات تنظم حركة الأموال منذ البداية، دون أن تنال من حرية الحركة؟ لماذا لا توضع أيديولوجيا جديدة لتثقيف أصحاب القرارات المالية الكبرى، بمن في ذلك وزراء المالية، وحكام البنوك المركزية؟ لقد اعترف رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق آلان جرينسبان الذي تربع على عرشه المهم هذا لمدة تزيد على 18 سنة، بأنه ارتكب أخطاء في تنفيذ أيديولوجيا السوق، بعد أن كان يتشدق هنا وهناك - بعد خروجه من منصبه - بأن ما يحدث في بلاده هو كارثة اقتصادية لا تحدث إلا مرة كل قرن من الزمن. فهذا الاعتراف وحده يحتم على أصحاب القرار الاقتصادي العالمي، إعادة صياغة الحركة الاقتصادية وفق مزيد من الرقابة، والجدل والمناقشات. مرة أخرى، السلاح الأساسي في مثل هذه الحالة، هو التدخل السريع، والسيطرة على دفة القيادة، لأن دفات القيادة المتعددة ، تأخذ السفينة في كل الاتجاهات.
إن نظام "الإنذار المبكر" ليس سيئا مائة بالمائة، لكنه سيكتسب هذه الصفة، إذا ما اعتمد وحده، بمعزل عن سياسات وآليات جديدة، بل سيكون دون جدوى على الإطلاق، عندما يعجز العالم عن الوقوف في وجه إعصار مالي، لا يقضي على المؤسسات فحسب، بل يدمر المجتمعات.