قصة الأخدود

قصة الأخدود

كما أن محرقة اليهود المزعومة تعد وصمة عار في جبين الإنسانية، فكذا محرقة الأخدود الثابتة تاريخيا، هذه القصة التي لطالما اقشعرت منها الأبدان وارتعدت لها الفرائص، خصوصا عندما يأتي إمام المسجد على الآيات الكريمات في سورة البروج التي تروي القصة المرعبة في سياق قرآني أخاذ وبكلمات قليلة تتراقص رُكَب المصلين لثقل معانيها، وتتوثب الصور ثلاثية الأبعاد فائقة الوضوح في لمحات خاطفة إلى المخيلة حتى ليكاد صراخ الألم يجلد المسامع، ورائحة شواء الأجساد المحروقة يتسلل إلى الأنوف، وتتكدر له الأنفس وتبلغ الحسرة مداها ويضطرب القلب عندما يردد الإمام ..... "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد".
ولعظمة الحدث وفجاعته، يقسم الله، عز وجل، بالسماء وبروجها الهائلة، وكأنه إيحاء بنقمتها وباليوم الموعود وهو يوم القيامة، وبالشاهد والمشهود أي حشود الناس التي عاشت وشاهدت وشهدت على الحدث المروع ليربط عظمة العقيدة مع بشاعة جريمة الاعتداء على جوهرها ومحاولة إطفاء شعاعها ونورها في النفس المؤمنة، يقول المولى (والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد)
ويقع الأخدود في مدينة نجران القديمة، وهي مدينة مربعة الشكل ومحصنة يرجع تاريخها إلى ما بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الثالث الميلادي، وهذا يكاد يتزامن مع ظهور العرب حسب السجلات الآشورية القديمة التي تعود إلى ما بين 850 قبل الميلاد إلى 600 قبل الميلاد، وتتضمن فيما تتضمنه إشارات كثيرة إلى القبائل العربية في شمال الجزيرة العربية ومراكزهم الرئيسة كمنطقة حائل والجوف (أدوماتو) والعلا (ديدان)، وكان هناك اتحادات قوية بين القبائل تتزعمها قبيلة قيدار، وثمة موقع مهم آخر على بعد 25 كيلو مترا من موقع الأخدود يضم عمودا وصفا من الحجارة على شكل شبه دائري يطلق عليه (كعبة نجران)، وقد شيدت على جبل (تصلال) وشيدها بني عبد المدان بن الديان الحارثي، ربما بإيعاز من أبرهة الأشرم قبل الإسلام وحج إليها الجهال من العرب طوال أربعين سنة. وتجدر الإشارة إلى أن هناك مواقع معاصرة للأخدود وضمن نطاقه، مثل قرية الفاو التي كانت تعد طريق التجارة من نجران إلى المنطقة الشرقية وتمر ببئر حما المشهورة بكتاباتها القديمة، والفاو أصبحت آثارها معروفة بفضل الحفريات التي استمرت قرابة السنوات العشر من قبل جامعة الملك سعود وعلى رأسها الدكتور عبد الرحمن الأنصاري، وحسب الاستقصاءات الأثرية وكربون 14، الذي وجد على قطع عديدة من الفخار والزجاج والمجوهرات والتماثيل والأدوات المعدنية، حتى المنسوجات، فقد تبين أن الموقع يعود للقرن الرابع قبل الميلاد، وثمة موقع آخر لا يقل أهمية عن سابقه لمدينة في الشمال يطلق عليها (جرش) وهي قريبة من خميس مشيط، وقد عاصرت فترة الأخدود، ويظهر على جدران مدينة الأخدود الكثير من النقوش والخطوط القديمة مثل خط المسند للكتابة السبئية والمعنية والحضرمية وغيرها التي امتزجت فيما بعد مع الأرامية في الشمال وكان لها خصائص اللغة العربية، إلى أن تحولت مع مرور الزمن إلى اللغة العربية كما نعرفها اليوم.

[email protected]

الأكثر قراءة