السعر العادل للنفط.. ميكانيكية السوق أم الجيوبولتكس؟

السعر العادل للنفط.. ميكانيكية السوق أم الجيوبولتكس؟

المتأمل بُعيد مؤتمر كاراكاس الثاني عام 2000 م، يلحظ أن الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" بالتضامن مع الدول المنتجة للنفط من خارج "أوبك" سلكت المسار الصحيح من أجل وقف الانهيارات المتكررة لأسعار النفط والعمل على استقرارها مابين 22 و28 دولارا للبرميل الواحد في ذلك الوقت، مع الاستعداد التام لزيادة المعروض من النفط للمحافظة على استقرار السوق النفطية وضمان الإمدادات الكافية لتلبية الطلب العالمي. في خضم هذه الأحداث يطفو على السطح سؤال جدير بالإجابة، ولماذا النفط ؟ وهل تستحق هذه السلعة الاستراتيجية كل هذه الضجة الإعلامية الواسعة من تحليلات وتعليقات، بل وحتى التهديد باستخدام القوة بعد ارتفاع أسعارها؟ أليس هناك الكثير والكثير من السلع التي ترتفع أسعارها وتمر مرور الكرام؟. النفط سلعة استراتيجية ومصدر مهم للطاقة، يمتاز بسهولة الاستخدام وشدة الاحتراق والنظافة مقارنة بغيره من مصادر الطاقة إضافة إلى سهولة نقله وتخزينه، إضافة ً إلى كونه مدخلاً مهما ورئيساً للصناعات البتروكيماوية، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه قطب الرحى لحضارة اليوم المادية. الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية تؤثر في أسعار النفط واستقرارها، والمقصود باستقرار الأسعار هنا حالة التوازن التي تحددها قوى السوق (العرض والطلب)، وينتج عنها سعر عادل للمنتجين والمستهلكين. وبعيداً عن عوامل الجغرافيا السياسية والعوامل البيئية، السعر العادل للنفط هو الذي يأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية والتي من ضمنها: السوق النفطية تتفرد بمواصفات تجعلها أكثر تميزاً عن غيرها من الأسواق، فالمنتجون فيها عددهم قليل والمستهلكون أصحاب الشهية الكبيرة ليسوا بالكُثر، ولذا فإن مرونة الطلب على هذه السلعة المهمة قليلة (غير مرنة) في الأجلين القصير والمتوسط، وهذا يترتب عليه صعوبات في إيجاد بدائل قوية في هذين الأجلين ولا حتى في الأجل الطويل كونها سلعة استراتيجية ومهمة للاستخدامات الصناعية والعسكرية، ما جعلها محل اهتمام الغرب والعالم المتحضر منذ زمن بعيد، ابتداء بعهد الكشوفات النفطية مروراً بالسياسات التسعيرية الجائرة ومن ثم المشاركة في الأرباح ويليه المناصفة، فانتهاءً بملكية هذه الثروات من قبل أصحاب الأرض. غالبية الدول المصدرة للنفط دول نامية وتشكل الصادرات النفطية العمود الفقري لصادراتها الخارجية. ففي الأدبيات الاقتصادية قسم الاقتصادي المشهور هيجن اقتصادات الدول المنتجة للنفط إلى خمس قطاعات: المنبع (قطاع النفط)، والذي يمتاز بإنتاجيته العالية، السوق، المزرعة والتي تتميز بضعف الإنتاجية، البنك ومن ثم بقية العالم. فكلما ارتفعت إيرادات النفط، زادت مداخيل الدول المنتجة وبالتالي ارتفعت وارداتها من الدول المتقدمة من أجل تسريع التنمية الاقتصادية بسبب محدودية القاعدة الإنتاجية لهذه الدول مقارنةً بالدول المتقدمة. فالنفط وعلى الرغم من الارتفاع النسبي في أسعاره إلا أنه يظل رخيصا ورخيصا مقارنة بغيره من البدائل الموجودة، لذا من المهم أن يعكس سعر برميل النفط تكلفة البدائل لهذه السلعة الإستراتيجية وليس تكلفة الإنتاج، أي أن مصادر الطاقة الأخرى كالفحم الحجري والطاقة الكهرومائية والشمسية والطاقة النووية وغيرها لها من التكاليف الرأسمالية الباهظة سواء في التأسيس أو الاستخراج، كما أن لها من الآثار الضارة والتكاليف الاجتماعية التي يدفع ثمنها المجتمع ما هو معلوم للجميع، وأعتقد جازماً أن حادثة مفاعل تشرنوبل في روسيا مازالت ماثلة للعيان. الاستكشافات النفطية والاستخراج (أو زيادة الطاقة الإنتاجية)، تخضع لعمليات معقدة ومكلفة جداً وتحتاج إلى استثمارات هائلة، ففي ظل تدني أسعار النفط لن يكون في مقدور البلدان المنتجة للنفط القيام بهذه العمليات لأنها ستكون على حساب عمليات التنمية التي تحتاج إليها هذه البلدان وسينعكس سلباً على رفاهية مواطنيها، وبناء عليه فإن الدول الغربية المستهلكة تأخذ في اعتباراتها الحرص على استقرار وسلامة البناء الاجتماعي والسياسي للبلدان المصدرة للنفط لأن ذلك يعني استمرارا واستقرارا لإمدادات الطاقة على المدى الطويل. من ناحية أخرى، الدول المنتجة للنفط تعتمد عليه كمصدر رئيس لتمويل مشاريعها الاستثمارية المختلفة وغالبا ما تأتي الواردات بجميع أنواعها من الدول المستهلكة للنفط مثل أوروبا، الولايات المتحدة، اليابان، وكوريا لكن مستويات الأسعار في هذه الدول ارتفعت وبشكل كبير ما أثر إيجاباً في فاتورة الواردات وتسبب في تآكل القوة الشرائية لدولارات النفط، وهذا لابد أن يعكسه سعر برميل النفط. الارتفاعات الأخيرة في أسعار الخام كانت كبيرة، لكنها ومن منظور تاريخي لا تعدو أن تكون أكبر من الناحية الاسمية مقارنةً بارتفاعات السبعينيات الميلادية، بينما الارتفاعات الحقيقية في أوائل عام 2006 أقل بكثير من المستويات التي وصلت لها قبل أكثر بقليل من 25 عاما. يرى البعض أن الارتفاعات في أسعار النفط أخيرا أقل تأثيراً مما أحدثته ارتفاعات النفط في السبعينيات وأوائل الثمانينيات الميلادية لعدة عوامل من ضمنها: بقاء الأسعار الحقيقية دون الذي بلغته في السابق، انخفاض قيمة الدولار أمام العملات الرئيسة، حالة الانتعاش التي تشهدها الاقتصادات العالمية، ووجود القدرات الاحتياطية في الاقتصادات العالمية مع ارتفاع البطالة في معظم بلدان العالم. آخذاً في الحسبان هذه الحقائق العلمية فإن السعر العادل للنفط هو الذي يتحدد عن طريق قوى السوق والتي تأخذ في حسبانها المتغيرات الإقليمية والدولية المحيطة سواءً في الأجل القصير أو المتوسط، ولهذا فإن أي قلاقل سياسية أو تغيرات اجتماعية أو جيوبوليتيكة لا شك أنها ستؤثر إيجابا في سعر النفط على الأقل في الأجل القصير. إذاً والحال هذه، لابد للدول المتقدمة أن ترضى بارتفاع عادل في الأسعار وأن تقبل بآليات السوق في تحديد سعر هذه المادة الناضبة وألا تتدخل بهذه الآلية لأن العوامل غير الاقتصادية ستكون آثارها مؤقتة ومحدودة خاصة على المدى القصير. الارتفاعات المتواصلة في الأسعار لابد أن تتبعها تصحيحات ستؤدي إلى خفض سعر النفط، ناهيك عن أن الارتفاعات القوية ستدفع كذلك للبحث عن بدائل أخرى للنفط وإن كانت هذه البدائل لا تلوح بقوة في الأفق المنظور. أيضاً الارتفاعات الحادة ستدفع بمزيد من البحث والتنقيب وكذلك العودة للاستثمار في استخراج الخام من الحقول القديمة التي كانت ناضبة وقت تدني الأسعار، هذا كله يصب في مصلحة المعروض وترشيد الاستهلاك. [email protected]
إنشرها

أضف تعليق