المضاربة ومدى مسؤوليتها عن ارتفاع الأسعار

المضاربة ومدى مسؤوليتها عن ارتفاع الأسعار

[email protected]

المضاربة كلمة شائعة ولكنها في الوقت نفسه غامضة، وهناك تفاوت كبير بين الاقتصاديين أنفسهم في تحميل المضاربة مسؤولية ارتفاع الأسعار مثلما يحملها السياسيون أيضا المسؤولية.
لكن ما هي المضاربة؟ يمكن تعريفها ببساطة شديدة بأنها توظيف الأموال في المكان الذي يدر أعلى دخل ممكن. لكن إذا كان هذا هو تعريف المضاربة لماذا يحملها العالم مسؤولية ارتفاع الأسعار.
الحقيقة أن للمضاربة وجهين، وجه إيجابي ووجه آخر سلبي، فالوجه الإيجابي يتفق مع مضمون التعريف السابق، بينما الوجه السلبي للمضاربة يكمن في ممارسات إدارة المخاطر للمنتجات المهيكلة المركبة، أي أن الجانب السلبي الواضح للمضاربة في الأصل (تدمير أخلاقي)، لأنها تعتمد على مكافأة المغامرة، ودائما ما يكون المضاربون الفئة الأكثر قدرة على التعامل مع عنصر عدم اليقين بشأن المستقبل بسبب احتمالات الفوز بالمكافآت إذا ما أصابوا أو الوقوع تحت سوط السوق إذا ما جانبهم الصواب، لذلك فهم ليس لديهم حس وطني أو مشاعر، وهم يشترون الشركات ويفككونها ثم يعيدون تجميعها، بهدف التخلص من مجموعة كبيرة من الوظائف، خصوصا بعدما أصبحت تكنولوجيا الاتصالات الإلكترونية تحل محل الموظفين الذين استغنت عنهم، وهو ما تتوقعه الدول مستقبلا من تعرض الأنظمة الاقتصادية لاضطرابات هائلة في غضون الأعوام المقبلة.
بذلك تبقى المضاربة خارجة عن دائرة تبادل المنافع وتدخل في دائرة الرابح الأوحد، وجعل البقية خاسرين وهي قاعدة مخالفة لطبيعة التجارة التي تقوم على تبادل المنافع بين الجميع، بينما ينتج عن المضاربة زيادة في الأسعار على قيمتها الحقيقية وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بـ "الفقاعة".
وعند تزايد الطلب على سلعة ما يعتمد المضاربون على عقود الآجال الطويلة، نتيجة الخوف من نقص إنتاج تلك السلعة، والمشكلة أن المضاربين الجدد يأتي على رأسهم صناديق التقاعد في الولايات المتحدة، وآخرها انضماما إلى المضاربين كان صناديق التغطية.
ويدخل المضاربون في العقود الآجلة مستفيدين من ظاهرة تزايد الطلب على بعض السلع، خصوصا السلع الغذائية والطاقة، وأصبح المضاربون يتنافسون على الاستئثار بنصيب أوفر من تلك العقود، ومما يثبت ذلك ضخامة الأصول المضارب عليها، إذ سجلت البيانات المتحدة من بنك الاعتماد الدولي أن صفقات مشتقات السلع التي تمت خارج البورصة والمسجلة في دفاتر البنوك العالمية ارتفاعا من 1.2 تريليون دولار في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003 إلى 5.85 تريليون دولار في حزيران (يونيو) 2006، ويقدر البعض أنها تصل الآن إلى أكثر من عشرة تريليونات دولار، بينما قيمة الأصول المخصصة لتداول السلع في البورصات ارتفعت من 13 مليار دولار في نهاية عام 2003 إلى 260 مليار دولار في آذار (مارس) 2008.
فارتفاع الأسعار لا تعود إلى آلية قوى السوق العرض والطلب، وحسب شهادة مايكل دبليو ماسترز أمام لجنة الأمن الوطني والشؤون الحكومية التابعة لمجلس الشيوخ بأن العقود الآجلة للبترول خلال خمس سنوات وصلت لنحو 848 مليون برميل وتم تخزين 1.1 مليار برميل من خلال أسواق العقود الآجلة، أي تقدر بثمانية أضعاف مخزون احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي منذ عام 2003، وقد زاد مثلا مخزون شركة جولدمان ساكس للبترول بنسبة 25 في المائة خلال عام ونصف العام الماضي مع تحقيق أرباح قياسية.
فالمضاربون أصبحوا يشترون النفط وسلعا أولية أخرى من أجل التحوط ضد التضخم وتراجع العملة الأمريكية، ويعترف بذلك كبير الاقتصاديين في شركة بي. بي للنفط بأن النفط قد يواجه انخفاضا حادا إذا خرجت العوامل المالية من السوق الحالية التي زادت نحو 40 في المائة هذا العام ("الاقتصادية" 11/7/2008). ويقول روجر ديوان شريك في مؤسسة بي إف سي لاستشارات الطاقة، إن الذين يتوقعون ارتفاع الأسعار ليس عليهم تخزين البترول بطرق تقليدية، ويقول إن اللاعبين مثل صناديق التحوط والتقاعد أو المؤسسات مثل "جولدمان"، التي تقود السوق الآن لا تحتاج إلى امتلاك سفن أو حاويات. أي أن البيع يتم بعقود آجلة على الورق تتحول إلى مجرد أداة للاسترباح من فروق الأسعار، ولو أن الدول تصل إلى البيع الفعلي أو عبر بورصات ذات شفافية تضبط عمليات البيع الفعلية تسليم وتسلم للتخلص من البيع على الورق أو بعقود طويلة الأجل تتم المتاجرة بها على غرار السندات والأسهم، وهذه الضوابط واضحة في الشريعة الإسلامية، خصوصا فيما يخص حاجات الناس الضرورية لا يسمح للناس التحكم فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع الطعام حتى يقبض ونقله إلى مكان المشتري، ولو طبق هذا الآن على الطاقة والغذاء لانخفضت الأسعار، لأن ارتفاع الأسعار وبال على جميع الدول بما فيها الدول المصدرة لتلك السلع والمستفيد الوحيد هم المضاربون.
فالإسلام وضع عدد من الضوابط التي تضبط السوق مثل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم تلقي الركبان قبل نزولهم إلى السوق منعا لاحتكار الغذاء وشرائه بأسعار أقل من سعر السوق أو تتحكم فيه فئات محدودة، وامتنع الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يسعر السلع فقال (إن الله هو المسعر)، ونهى كذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الإنسان ما لا يملكه، وهذه ضوابط تحافظ على حرية السوق وسيره الطبيعي كي يخضع السوق لقوى العرض والطلب، توازنه التجارة، والتنمية تحفظ توازن السوق في الظروف العادية، بينما في حالة الطوارئ له ضوابط أخرى يتيح الإسلام للدولة وقتها أن تتدخل.

الأكثر قراءة