المستقبل العربي ليس رشيقا
المستقبل العربي ليس رشيقا
كتبت قبل عام مقالا يحمل هذا العنوان، من فرط تكاثر الإعلانات التلفزيونية الغذائية "الشريرة" الموجهة للأطفال في العالم العربي، في ظل غياب همة حكومية وأهلية لا للوقوف في وجه هذه الصناعة الخطيرة، بل لتأسيس ثقافة، تستند إلى صون المستقبل من خلال الاهتمام بالأطفال، وعدم استغلالهم تجاريا. وأكتب مقالا بهذا المعنى الآن، وظني أني سأكتب مثيلا له في العام المقبل، إذا ما بقيت وتيرة التعاطي مع هذه القضية في وضعية "مكانك سر". فالمؤشرات تدل على أن الدول العربية متمسكة بموقعها الخلفي وراء الدول الأخرى الناضجة، ما يعزز "ثقافة" الجهل باستحقاقات المستقبل، ويمنح في الوقت نفسه نقاطا إضافية لمن يسابق هذا المستقبل. والكارثة أنه حتى في الدول التي عرفت "المقاومة" لهذا النوع من الصناعة، تشهد ارتفاعا كبيرا في أعداد الأطفال المصابين بالسمنة وبالأمراض المرتبطة بها. فكيف الحال في تلك البلدان التي لم تستشرف الخطر بعد، ولم تضع هذه القضية ضمن نطاق التنمية، على اعتبار أن التنمية المستدامة تستوجب آليات مختلفة، ومن بينها تلك التي تنال من الشريحة المشكلة – بضم الميم – للمستقبل!.
ولأن المجتمعات المتقدمة عرفت مكامن خطورة هذه القضية، وانعكاساتها الكارثية، وأدركت أن ضررها المستقبلي على المجتمع أفدح من شرها الآني عليه، فإنها لا تتوقف عن التحرك لفرض الرقابة المشددة على الإعلانات التي تستهدف الأطفال. والذي يغلف هذه القضية بالأهمية، ليس فقط الاهتمام الحكومي بها، بل انشغال المؤسسات الأهلية والاجتماعية, ولا سيما تلك المتخصصة في حماية الأطفال ورعايتهم، فضلا عن المدارس والمؤسسات التعليمية بشكل عام. وعلى الرغم من قيام عديد من الشركات الكبرى بالتحرك ضد هذا النشاط المحموم، بهدف حماية منتجاتها، وتوفير الاستمرارية لبرامجها الترويجية المختلفة، إلا أن "اللوبي الاستهلاكي" – إن صح التعبير- يقف بالمرصاد لهذه الشركات، ليس اجتماعيا، بل أيضا سياسيا. فقد تبين بعد سنوات من النشاط الكبير أن الجمعيات الأهلية تتمتع بنفوذ قوي في المؤسسات التشريعية في الدول الغربية على وجه الخصوص. بل إن هناك مسؤولين حكوميين في بريطانيا – على سبيل المثال- يفاخرون بالإعلان عن انتماءاتهم لهذه الجمعيات، الأمر الذي يزيد من المصاعب التي تزداد في وجه الشركات التي تقدم إنتاجها للأطفال، أو لغير الراشدين.
نحن نعلم أن هناك مؤسسات وجمعيات عربية تقوم بجهود عملية لمواجهة "صناعة إعلانات الأطفال الشريرة"، لكن الذي نعرفه أنها ليست مؤثرة ولا يمكن أن تحقق أيا من أهدافها، وفق وتيرتها الراهنة. فذراعها لا تزال قاصرة، وبرامجها متوارية، لأسباب عديدة، لعل في مقدمتها تواضع أثر الجمعيات الأهلية – بكل تخصصاتها - في العالم العربي بشكل عام. ومرة أخرى غياب آلية التثقيف الاستهلاكي وبالتالي الصحي. هذا التواضع في قدرة الجمعيات الأهلية العربية، يقابله – طبقا لدراسة سابقة أجراها "مركز البحرين للدراسات والبحوث" - "جيش" من الأطفال الخليجيين ممن يشاهدون التلفزيون لمدة أربع ساعات يوميا تصل نسبته إلى 51 في المائة. هذا "الجيش" - بكل بساطة – يحتاج إلى "جيش" من الساعين لصيانة المستقبل، ليس فقط لتقديم التوجيه والإرشاد، بل أيضا إلى الوقوف في وجه الشركات التي تنتج وتقدم "إعلانات غذائية شريرة"، وللتحاور مع المحطات التلفزيونية لإطلاق "ميثاق شرف"، يهدف إلى فرز الشرور الإعلانية من هيكلية الإعلانات الموجهة للأطفال. ولإضافة هم آخر لهذه القضية، فإن الدراسات المتخصصة أجمعت على أن الطفل يبدأ التعرض والتأثر بالتلفزيون منذ بلوغه العام الثاني من عمره. أي أن الكارثة تبدأ مبكرا، وتتحول إلى معضلة لأنها لا تنتهي مبكرا.
لا شك أن الحلول ليست سهلة، ولا توجد منافذ جاهزة للخروج من نفق المستقبل المظلم، لكن تفعيل العمل، وإقناع الجهات ذات الصلة – المؤسسات الحكومية المعنية، الأهل، المدرسة، الأندية وغيرها – بأن القضية تتجاوز ارتباطها بطفل رشيق أو آخر بدين، والوصول إلى توصيف شعبي لثقافة الاستهلاك، والتعلم من تجارب الآخرين، وقراءة المستقبل "برشاقة"، والتأسيس للوبي حقيقي يراقب الاستهلاك ولاسيما الذي ينال من الأطفال. كل هذا – أو جزء منه – يوفر عمليا أرضية للحلول الاستراتيجية. وقد أظهرت التجارب أن أي تقدم في هذا المجال قد يتطلب معارك ينقصها السلاح فقط، بين مؤسسات المجتمع المدني والشركات المنتجة. فبعد تحركات لم تتوقف من جانب الجهات البريطانية المختصة بحماية الأطفال تجاريا، استطاعت هذه الأخيرة استصدار قانون يحظر إعلانات منتجات الأغذية التي تحتوي على دهون أو أملاح أو سكر زائد، وسيطبق هذا القانون اعتبارا من العام المقبل. كما أن هذه المؤسسات تعمل حاليا باتجاه دفع الحكومة إلى فرض ضرائب على المواد الغذائية غير الصحية – تماما كما هو الحال مع الخمور والسجائر- علما بأن القانون البريطاني يعفي منذ مئات السنين المنتجات الغذائية وملابس الأطفال والكتب من الضرائب. فقد وجد المختصون أن ريع الضرائب التي قد تفرض مستقبلا على هذه المنتجات– مرة أخرى ولا سيما تلك التي تستهدف الأطفال – يمكن أن يرصد إلى حملات التوعية الموجهة للطفل، بل وتقديم جزء منها لعلاج الأطفال الذين يعانون السمنة التي تعد أرضا خصبة للأمراض المبكرة.
كل هذا وذاك.. لا يمكن أن يحقق النتائج المرجوة الكاملة، دون تفهم وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما التلفزيون منها، لخطورة هذه القضية. وهنا أيضا لا بد أن تكون في المجتمعات العربية تشريعات إعلانية، تستند إلى أسس أخلاقية. لأن الاعتداء على الطفولة لا ينحصر فقط في الاستغلال الاقتصادي للأطفال من خلال تشغيلهم مبكرا، أو تعريضهم للعنف والمخاطر الجسدية أو حرمانهم من التعليم. بل يشمل أيضا العدوان عليهم تجاريا، من خلال المنتجات "الشريرة"، والإعلانات التجارية المتحررة من الأخلاق.