ماذا نتعلم من الانتخابات الأمريكية؟
تفصلنا أربعة أيام عن اليوم الفاصل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وتشير أغلب التوقعات واستطلاعات الرأي إلى تقدم الديمقراطي أوباما على خصمه الجمهوري ماكين. ويتابع العالم بشغف غريب أخبار وتفاصيل هذه المنافسة الحامية منذ بدايتها، وزادت هذه المتابعة في الشهور القليلة الماضية، لتبلغ أوجها هذه الأيام. غريب متابعة كثير من الشعوب ناهيك عن الحكومات لتفاصيل هذه الانتخابات. لماذا يتابع شعب ما الانتخابات في بلد أجنبي، بحيث قد يعرفون عنها أكثر مما يعرفون عن تفاصيل العمل السياسي في بلادهم؟
إنه بلا شك نصر للإعلام الأمريكي، الذي استطاع أن يكتسح بتغطيته الدقيقة والمتواصلة للانتخابات جميع الدول بلا استثناء. بطبيعة الحال فالانتخابات الأمريكية لها تأثيرات في الاقتصاد العالمي، والسياسات الخارجية الدولية، ولكن هذا لا يفسر متابعة الناس (وليست الحكومات) لأدق تفاصيل السباق الرئاسي. وتأتي هذه الانتخابات في أوقات عصيبة لأمريكا، فهي مهددة بكساد كبير قد يصل إلى مستويات الكساد العظيم الذي شل أمريكا في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أنها متورطة في حربين لم تستطع منهما فكاكاً. ناهيك عن الحرب على الإرهاب الداخلي والخارجي، ومحاولة الخروج من أزمة اقتصادية ضربت العالم كما ضرب تسونامي شواطئ جنوب شرق آسيا.
وعلى الرغم من كل ذلك، تعلمنا هذه الانتخابات مجمل دروس يجب ألا تنتهي إلا وقد وعيناها. فالبطل الخارق فيها بلا شك هو باراك أوباما الذي يقف على عتبات رواد السياسة التاريخيين في أمريكا، ويتحلق حوله الشباب وراغبو التغيير والتطوير. يبشر أوباما بروح مبادرة أضفت حساً إيجابياً على حملته ورؤيته لمستقبل أمريكا والعالم، بعكس منافسه الذي اتسمت حملته بالسلبية والهجومية. طغت الحمى (الأوبامية) على أمريكا ليطغى صوت التفاؤل والتفكير الإيجابي.
كما أن شخصية أوباما نفسها تم تسويقها إعلامياً بطريقة ناجحة، لتصف حملته الانتخابية مع أنجح الحملات السياسية في التاريخ الأمريكي الحديث. تم تقديم أوباما على أنه التوفيق الأمثل بين الأعراق، والثقافات، والسياسات الأمريكية الداخلية المتشابكة. ويعود النجاح الإعلامي هذا لاختياره الأشخاص المناسبين لإدارة حملته الانتخابية، فمدير الحملة ديفيد بلاف وله خبرة في التخطيط الاستراتيجي والإعلامي، وهو شريك في مؤسسة أي كي بي آند دي، التي تتبنى الأبحاث والتخطيط الاستراتيجي، وتدير حملات إعلانية وإعلامية في وسائل الإعلام، وتعيد استثمار موارد الإعلام لمزيد من الدعم الذاتي الإعلامي.
ويشرف على الجانب الإعلامي لحملة أوباما ديفيد آكسلورد، وهو كبير الاستراتيجيين في الحملة، وشريك في مؤسسة أي كي بي آند دي، كما يدير مؤسسة إي إس كي للدراسات الاستراتيجية، وهي مؤسسة متخصصة في خلق الصورة الإعلامية، وتغيير وجهات النظر الشعبية من خلال استراتيجيات خفية وبعيدة المدى، ويستفيد كثير من الشركات من خدمات هذه المؤسسة ولكن أسماء هذه الشركات تبقى سرية، ويعرف منها على سبيل المثال شركة أي تي آند تي، وكيبل فيجن، وكوم إيد، وغيرها. وفي المقابل يدير الحملة الانتخابية لماكين: ستيف شميت، المتخصص في العلوم السياسية، وصاحب العلاقات الكثيرة في دوائر واشنطن السياسية، بما فيها البيت الأبيض، الذي سبق وعمل فيه.
إن تناول أوباما الاحترافي والحديث لطريقة الاستفادة من الإعلام في "تسويق" نفسه للناخبين لهو معيار نجاح كبير لسياسي شاب تعمل كل الظروف المحيطة على إفشاله. ولكن استخدام الإعلام، السلاح الجبار في يد من يحسن استخدامه، يقلب المعادلة. كما أنه لا شيء أخطر من استخدام الإعلام على هيئة بروباغاندا، تصرف فيها الموارد الكثيرة فيؤدي إلى نتائج عكسية، ويصبح الحال أفضل لو لم يكن هناك تغطية إعلامية.
لقد تغيرت عقليات متلقي الرسائل الإعلامية، وأي رسالة إعلامية يجب أن تراعي ذلك، وتعمل الدعاية بأسلوب ذكي غير مباشر، وإلا انقلبت لحملات بروباغاندا يسارية (على خطى صحيفة البرافدا السوفيتية) تذكر بالحملات الإعلامية في ستينيات القرن العشرين التي مازالت يستخدمها كثير من الدول، بما فيها أغلب الدول العربية التي تطلب من إعلامها خلق شيء من لا شيء، فلا هي نجحت في الحفاظ على مواردها، ولا هي تمكنت بعد الصرف الكبير على الإعلام من الحصول على رضا شعوبها.