كيف نواجه تحديات التضخم؟

كيف نواجه تحديات التضخم؟

[email protected] التضخم في السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ليس من نوع التضخم الناتج عن الانخفاض في القوة الشرائية لعملة الاقتصاد الناتجة عن أزمات سياسية أو حروب تجعل المجتمع غير قادر على الإنتاج فتنهار عملته لقلة الطلب عليها وتضعف قوتها الشرائية بشكل كبير جدا. ولكن لماذا كل هذا القلق إزاء تسارع معدل التضخم في السعودية وفي بقية دول مجلس التعاون، الذي سجل في السعودية أعلى مستوياته في سبعة أعوام بعد أن ارتفع إلى 6.5 في المائة في كانون الأول (ديسمبر) 2007 من 3.83 في المائة في تموز (يوليو) 2007 واصل ارتفاعاته إلى 8.7 في المائة في نيسان (أبريل) 2008؟ ولكن لماذا يربط الاقتصاديون ذلك الارتفاع فقط بارتفاع الإيجارات نتيجة تنامي الطلب وانخفاض المعروض وتفاقم تكاليف واردات المملكة من المواد الغذائية خصوصا وغيرها نتيجة ارتباط الريال بالدولار الضعيف؟ أليس هذا الارتفاع متوقعا نتيجة الخلل المشوّه في هيكلية الاقتصاد السعودي الذي أوجد مشكلة البطالة؟ وهل السياسات النقدية قادرة على تخفيض حجم البطالة في ظل وجود هذا الخلل والتشوه في هيكلية الاقتصاد السعودي؟ أم أن الحل الأفضل هو الاتجاه إلى اتخاذ قرارات اقتصادية حقيقية وجريئة وسريعة لتصحيح هذا الخلل؟ نحن نشهد آثار تخصيص قطاع الاتصالات على انخفاض الأسعار، بينما يسير هذا الاتجاه ببطء شديد جدا خوفا من الهرولة التي أصبحت عقبة أمام التحولات الكبرى في بقية القطاعات الأخرى، رغم أن الدولة جعلت التخصيص خيارها الاستراتيجي. وعلى افتراض أن القطاعات الأخرى تم تخصيصها مثل قطاع الكهرباء والماء والنقل والرعاية الصحية وغيرها من خدمات، إضافة إلى تحرير بقية القطاعات الأخرى وفتح باب المنافسة، خصوصا في قطاع الإسكان وزيادة الإنتاجية ستكون عندها الأسعار منخفضة وفي متناول يد المستهلك، ولن ترتفع نسبة التضخم مثلما هي عليه الآن أو أن وقعها سيكون على المواطن متوسط الدخل محدودا تبقى شريحة الفقراء التي يمكن التعاطي معها بدلا من التعاطي مع المجتمع بأكمله، فالخوف من الهرولة نحو التخصيص جعلنا نفاجأ بارتفاع الأسعار العالمية، إضافة إلى ارتفاع أسعار الخدمات المحلية وعدم توافرها بالكامل في بعض الأماكن، وفي العديد من القطاعات أسهمت جميعها في ارتفاع نسبة التضخم. وقد سبق أن أجرت الدول الكبرى تحولات عميقة وأليمة، ولكنها حاولت أن تتكيف في ظل اقتصاد عالمي تنافسي. فتواجه مثلا بريطانيا مستقبلا في غضون الـ 20 سنة المقبلة بأن تأتي نصف الصادرات التصنيعية في العالم من الدول النامية ويمكن أن تنتقل نحو خمسة ملايين فرصة عمل بريطانية وأمريكية إلى الدول النامية، بل هناك صناعات في أوروبا انتقلت بالكامل من دولة إلى دولة أخرى نتيجة انخفاض أجور أو نتيجة عوامل أخرى. فإذا كان النفط يشكل 84 -91 في المائة من إجمالي الصادرات السعودية خلال الفترة 1997 – 2006، ما يعني أن القطاعات الإنتاجية في السعودية محدودة جدا ولا تستطيع إيجاد فرص وظيفية جديدة أو تكون محدودة جدا لا تتناسب مع الأعداد التي تتخرج وتدخل سوق العمل سنويا. لذلك لا بد أن تعطي الدولة أهمية كبرى للقطاع الخدمي الذي أهمل في الفترة الماضية، ويعد القطاع الأكبر في عصر العولمة، وهو القادر على إيجاد وظائف جديدة، لأن الثورة التكنولوجية الجديدة حلت محل الأيدي العاملة البشرية وانحسرت في القطاع الصناعي وتنتج الولايات المتحدة ضعف إنتاج الصين رغم أن عمال الصين ستة أضعاف عمال الولايات المتحدة، أي أن إنتاجية العامل الأمريكي 12 ضعف إنتاجية العامل الصيني (وإن كانت هي استراتيجية تتناسب مع الوضع في الصين)، والفضل في ذلك يعود إلى التقنيات الحديثة المتوافرة للعامل الأمريكي، وبذلك فإن قطاع الخدمات استحوذ على الوظائف الجديدة بنسبة 80 في المائة في الولايات المتحدة وانخفضت النسبة في الزراعة من 70 في المائة عام 1820 إلى 2 في المائة فقط في الوقت الحاضر وبإنتاج مضاعف. فالنمط الاستهلاكي يسهم في تحويل الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد خدمي، لأن استهلاكها لا يتوقف في الطلب عليه بسبب أن قطاع الخدمات لا يمكن فيه أن تحل الآلة محل الأيدي العاملة مثلما حلت محل العمالة في القطاع الصناعي. فالقطاع الخدمي أصبح يستوعب الأيدي العاملة البشرية وخاصة التي تمتلك العقول والأفكار الجديدة، بل أصبحت كثيرا من الصناعات الحديثة تمزج بين قطاعي الصناعة والخدمات، وإن كان الفرق بين طبيعة المهنتين واضحا جليا وإن ذابت الفوارق. فإضافة إلى الاهتمام بالجوانب الإنتاجية والخدمية، فإن القطاع الخاص في السعودية يشوبه خلل هيكلي، لأن سمات القطاع الخاص السعودي غلبة المؤسسات الفردية على المساهمة ذات الصبغة العائلية التي لا ترتبط بعلاقات اقتصادية مبررة رئيسية، لذلك فإن 78 في المائة من تلك المؤسسات في القطاع الخاص تقدر عوائدها ربع عوائد الشركات الكبيرة على الأموال المستثمرة، لذلك فهي غير قادرة على استيعاب وإيجاد وظائف جديدة وتكتفي بتوظيف العمالة الأجنبية الرخيصة التي تقدر بأكثر من سبعة ملايين عامل. فهي بحاجة إلى إصلاحات هيكلية واندماجات اقتصادية للأنشطة المتشابهة واستخدام التقنية الحديثة. وبالنظر إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة في الولايات المتحدة تستوعب 43 في المائة من صافي الوظائف الجديدة، بينما في أوروبا ترتفع إلى استيعاب ثلثي الوظائف الجديدة في أوروبا. وتشير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن الأغلبية الساحقة للوظائف الحديثة هي في المنشآت الصغيرة، وكذلك في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية من خلال إعادة الهيكلة. ومن مميزات صناعة الخدمات أنها من غير الممكن نقلها إلى الخارج أسوة بالصناعات الأخرى، فهي فرصة للإنتاجية من أجل استيعاب العمالة المحلية إذا أعيدت هيكلتها، وتم تطويرها بما يتناسب مع التحولات الاقتصادية المحلية والعالمية لتتحول تلك المنشآت الصغيرة الخدمية إلى منشآت متماسكة، خصوصا بعد إتاحة فرصة الاندماج وتوفير التمويل اللازم، وإسناد إداراتها إلى كفاءات عالية التدريب تسهم في رفع جودة المنتج وزيادة رقعة التسويق والقدرة على المنافسة. فالقدرات العقلية والاقتصادية الوحيدة القادرة على مواجهة تحدي التضخم بتطوير منشآت تتمكن من امتلاك مقوِّمات الوجود والقدرة على المنافسة وتوفير منتجات بأرخص الأسعار. أي عندما نعالج مشكلة يجب ألا تكون على حساب قضايا أخرى، بل يجب أن تكون ضمن الإطار الكلي للاقتصاد الوطني، وأن ينظر إلى الحلول الجذرية طويلة الأمد بجانب الحلول الجزئية قصيرة الأمد.
إنشرها

أضف تعليق