المياه مورد اقتصادي مستدام
المياه نعمة من نعم الخالق، وآية من آيات الله الكبرى لا تستمر الحياة بكل صورتها بغيرها. ويذكرنا التاريخ بطبيعة العلاقة التبادلية الوثيقة بين توافر المياه وقيام الحضارات قديماً، خاصة في تلك المناطق التي تتمتع بالمناخ المعتدل والمياه العذبة وكيف تم توظيف موارد المياه المتاحة لتحقيق الاستقرار, والأمثلة على ذلك كثيرة من أبرزها حضارة مصر الفرعونية في أرض يجري على أرضها النيل العظيم والحضارات المتلاحقة في الهلال الخصيب، وحضارات الهند والصين وحضارات المايا في بيرو في أمريكا اللاتينية، وفي الوقت الذي تمت فيه إقامة تجمعات حضارية أخرى مستقرة على سواحل البحار القديمة وقامت إمبراطوريات عظمى لها تاريخ مؤثر في حياة البشرية من أهمها الدولة الرومانية والدولة الإغريقية .. وأمكن استخراج هذا المورد الحيوي من باطن الأرض أيضاً ونشأت مواقع حضرية حتى في المواقع التي تفتقر إلى الأنهار الدائمة السريان أو البحار. ويذكرنا القرآن الكريم كيف كرم الله أم القرى مكة المكرمة وفجر في أرضها عين زمزم منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام مضت على يد نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ ابن أبي الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ لتظل قبلة الموحدين وحاضرة الحواضر إلى يوم الدين.
وخلال مسيرة التاريخ حتى مرحلة عصر الصناعة، تعددت استخدامات المياه ولم تعد قاصرة على استخدام المياه وسيلة للنقل أو مصدرا للغذاء لتعزيز الاقتصاد المبني على الزراعة، وظهرت جوانب أخرى لم تكن معروفة لاستغلال المياه موردا اقتصاديا, لعل من أبرزها: استخدامات المياه في جميع الصناعات الأساسية والتحويلية إما للتبريد وإما كمدخل أساسي في المنتج الصناعي، واستخدامات المياه في المجال الطبي وظهور ما يسمى العلاج بالمياه وكذلك إمكانية استخراج مستحضرات طبية – كالأنسولين والإدرينالين – من الثديات التي تعيش في البحار, إضافة إلى استخراج عديد من الثروات المعدنية كالأملاح والعناصر النادرة والنفيسة من مياه البحر. ولا يمكن إغفال أن ثلث إنتاج الطاقة عالمياً يتم الحصول عليه من الطاقة الكهربائية المولدة من المياه سواء من الشلالات الطبيعية أو الصناعية .
ولنا في ذلك وقفة ونحن في بداية القرن الـ 21 والعالم يدخل بقوة في عصر الاقتصاد المبني على المعرفة بعد أن تخطى عصر الاقتصاد الصناعي، فما زال هناك إجماع على أهمية المياه كمورد اقتصادي لإنتاج الغذاء وضمان مسيرة الصناعة ومقومات التنمية الاقتصادية، ولكن تكمن المشكلة في ضمان استدامة هذا المورد بكميات كافية ونوعية جيدة, والذي يعد أحد أهم المحددات التي اتفق عليها من المجتمع الدولي في الأمم المتحدة في إطار أهداف الألفية التنموية Millennium Development Goals, وللتوضيح نورد النقاط التالية:
* إن ما يتم سحبه من المياه العذبة من جميع المصادر السطحية وغير السطحية على المستوى العالمي لتغطية جميع الأغراض الزراعية والصناعية والبلدية وغيرها يتجاوز ثلاثة تريليونات متر مكعب سنوياً ، وإن نصف هذه الكمية المسحوبة من ثلاث دول فقط هي الصين، الهند، والولايات المتحدة، وأن النصف الباقي يسحب لتغطية متطلبات ما يزيد على 200 دولة على سطح الأرض.
* إن التوزيع النسبي لاستخدامات المياه يتباين طبقاً لمستويات اقتصادات الدول. ففي الدول الأقل دخلاً Low Income تراوح نسبة ما يستغل من المياه لتلبية الأغراض الزراعية بين 80 و90 في المائة من إجمالي المياه المتاحة فيما لا تتجاوز هذه النسبة 40 في المائة في الدول ذات الدخل المرتفع High Income. وفي المقابل لا تزيد النسبة المستخدمة من المياه على 10 في المائة من الإجمالي للأغراض الصناعية في الدول النامية فيما تصل إلى نحو 50 في المائة أو أكثر في الدول الصناعية المتقدمة ولا يتوقع أن يتغير التوزيع النسبي لاستخدامات المياه لتلك الدول في المستقبل القريب.
* يزداد إسهام انبعاث ملوثات المياه العضوية من الصناعات الأساسية والكيماوية وغيرها بصورة واضحة في الدول الصناعية, ويشير تقرير البنك الدولي الصادر أخيرا إلى أن هذه الانبعاثات تصل إلى نحو ثمانية ملايين كيلو جرام يومياً في الصين وتصل إلى نحو 2.5 مليون كيلو جرام يومياً في الولايات المتحدة، وقد تصل إلى مليوني كيلو جرام يومياً في الهند وروسيا واليابان, وهي دول مصدرة لهذه الملوثات في المياه.
وفي الختام ونحن في شهر رمضان الكريم نسترجع بالذكرى الآية الكريمة ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ( سورة إبراهيم (32).
ويعني الرزق بمفهومه الواسع في هذه الآية المنفعة الاقتصادية واستخدام المياه موردا اقتصاديا، فهل يأخذ الإنسان العبرة ويحافظ على هذا (الرزق) ويضمن استدامته لمصلحة الأجيال الحالية والمقبلة؟!