العلاقة بين الظاهرة الإسلامية والخطاب البحثي حولها
drashwan59@yahoo .com
سبق لنا في هذه المساحة أن تناولنا قبل فترة طويلة الأهمية التي باتت الكتابات والدراسات حول الظاهرة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم تحتلها في عالمنا اليوم، مقترحين في حينها بعضاً من الوسائل والمقتربات لدراسة هذا الخطاب المتراكم حول تلك الظاهرة لمعرفة مكوناته الحقيقية والعناصر التي يتشكل منها. فقد أصبح ذلك الخطاب الذي تخصصت في إنتاجه اليوم مؤسسات ومراكز أبحاث ودراسات كثيرة في مختلف دول العالم يتمتع بتأثيرات قوية ومباشرة على عملية صنع القرار الرسمي تجاه الظاهرة الإسلامية، فضلاً عن مساهمته القوية في تشكيل اتجاهات الإعلام والرأي العام حولها.
وإضافة إلى المحاور التي سبق اقتراحها لدراسة هذا الخطاب حول الظاهرة الإسلامية، مثل الموضوعات والمراجع والمصادر والمناهج والمقتربات التي درس بها الظاهرة، فإن العلاقة بين هذا الخطاب ومؤلفيه وتلك الظاهرة نفسها تحتاج أيضاً إلى مزيد من التركيز والدراسة. ولكي يمكن تحليل هذا الموضوع الدقيق الشائك بأكثر طريقة موضوعية ومعمقة، فإن الأمر يستلزم دراسة عدة جوانب لتلك العلاقة بين الظاهرة الإسلامية والخطاب البحثي المنتج حولها. أول هذه الجوانب هو السياق التاريخي الذي أحاط بالاثنين، حيث يشمل ذلك السعي للتعرف إلى الملابسات والشروط العامة التي أُنتج الخطاب البحثي في ظلها ومدى انعكاسها عليه، سواء من حيث موضوعاته أو مصادره ومراجعه أو قواعده المنهجية، ومن ثم نتائجه واستخلاصاته. كذلك يحتل التحليل المقارن بين السياق الخاص بتطور الظاهرة الإسلامية وإنتاج الخطاب البحثي حولها وانعكاسه على مختلف محاوره السابقة أهمية خاصة في الدراسة. ولا شك أن النتائج التي ستسفر عنها تلك المقارنات بين الخطاب والسياق - العام والخاص - الذي أُنتج ضمنه ستكون بحاجة إلى تحليل وتفسيرات ستضيء بدورها جوانب عديدة لهذه العلاقة المعقدة بين الظاهرة وما أجري حولها من دراسات.
من جانب آخر، يحتل مؤلفو الخطاب البحثي حول الظاهرة الإسلامية أهمية خاصة، حيث يبدو ضرورياً السعي لبحث العلاقة بينهم وبين الظاهرة الإسلامية التي يدرسونها. وفي ذلك الإطار يمكن التعرف إلى مجالات تركيز كل من مؤلفي الخطاب ومدى تغيرها وفقاً للسياقين العام والخاص المشار إليهما في الفقرة السابقة. كذلك فمن الممكن اختيار عينة موسعة من أكثر المؤلفين كتابة حول الظاهرة وإجراء تحليل تفسيري مقارن لإنتاج كل منهم على مدار مراحل زمنية متعاقبة وبين مجموعة منهم في المرحلة نفسها، سواء فيما يخص موضوعات تركيزهم أو مصادرهم أو قواعدهم المنهجية. كذلك من الممكن أن يمتد التحليل المقارن التفسيري لتلك العينة إلى التغير أو الثبات في النتائج والاستخلاصات النهائية لهؤلاء المؤلفين، التي تتضمن بالضرورة تغيرا أو ثباتا في مواقفهم المعلنة أو المضمرة من الظاهرة التي يبحثونها. وتمثل الخصائص الهيكلية للخطاب البحثي حول الظاهرة الإسلامية الجانب الثالث المهم لدراسة هذا الخطاب. فعلى الرغم من مقولة الحياد العلمي وعدم انحياز الباحث أو تداخله في الظواهر الاجتماعية أو التاريخية التي يبحثها، فإن الواقع العملي يشير إلى عكس ذلك، حيث يؤكد واقع منتجي الخطاب البحثي حول الظاهرة الإسلامية تداخلهم وخطابهم بصور مختلفة مع الظاهرة التي يدرسونها. وفي هذا الإطار يمكن أن يتجه البحث إلى أوجه التأثير والتأثر ما بين الخطاب والظاهرة على مدار السنوات التي تطور خلالها كل منهما بما يكون قد أوصل إلى اكتسابهما بعض الخصائص الهيكلية المشتركة. وإذا كانت معظم الدراسات حول الظاهرة الإسلامية في مختلف مناطق العالم تنتهي إلى وسمها بصفات وخصائص عديدة أبرزها التشدد تجاه الآخرين والتعميم في الأحكام المسبقة عليهم ومقاطعتهم والانفصال عنهم، فمن الواجب السعي إلى اكتشاف مدى تأثر الخطاب البحثي بتلك الخصائص الهيكلية للظاهرة وغيرها.
وبصورة مبدئية يمكن القول إن النتائج الأولية لدراسة الجوانب الثلاثة السابقة يمكن أن تؤكد أولاً أن السياق العام المحيط بإنتاج الخطاب البحثي، وكذلك السياق الخاص بتطورات الظاهرة الإسلامية كان لهما تأثير بالغ في تطوره وموضوعاته وحجمه ونوعيته ونتائجه واستخلاصاته، حيث بدا ذلك الخطاب كمتغير تابع مباشرة لتلك التطورات. كذلك فمن ناحية ثانية وفيما يخص مؤلفي هذا الخطاب البحثي، فالأرجح هو أن درجة التعديل أو التغيير في مواقفهم المعلنة أو المضمرة من الظاهرة الإسلامية قد ظلت ضئيلة للغاية بغض النظر عن حجم إنتاجهم وعن التطورات في السياقين المشار إليهما سابقاً. من ناحية ثالثة، فالدراسة الأولية تشير إلى أن هناك عدة خصائص هيكلية مشتركة بين الظاهرة الإسلامية والخطاب البحثي حولها بغض النظر عن مضمون تلك الخصائص، أبرزها تشدده تجاهها كما هي متشددة تجاه الآخرين وتعميمه في الأحكام المسبقة عليها ومقاطعته لها والانفصال عنها كما تفعل هي أيضاً تجاه من هم خارجها. فالأرجح أننا قد أضحينا ليس أمام ظاهرتين منفصلتين لكل منهما مكوناتها وخصائصها المتميزة بقدر ما نحن إزاء سيل كثيف من العلاقات المتداخلة المتشابكة فيما بينهما بما يكاد يجعل من كل منهما، ووفقا لمقولات علم اجتماع المعرفة أو مدارس تحليل الخطاب، جزءاً عضويا ومكملا للآخر.