هانيبال في معركة كاني
هانيبال في معركة كاني
كلمة كاني ذهبت مثلا في العلم العسكري. ولكنها لروما كانت محزنة كبرى هلك فيها جيل كامل من خيرة شباب العاصمة الإمبراطورية، على يد هانيبال القرطاجي، ودارت رحاها على الأرض الإيطالية (حاليا)، وبعد هذه المعركة لم تقو روما على مواجهة هانيبال قط، وعاث هانيبال لمدة 18 عاما في الجنوب من أجل عقد تحالفات ضد روما، وكانت مدينة كابو من هذا الطابور الخامس، فدفعت ثمنا مدمرا بعد انقلاب الزمن على هانيبال.
وفي الواقع فإن هذا الشخص الذي امتلأ بالفن الحربي والكراهية المريرة لروما، كان قدر روما الذي لا تنساه حتى اليوم، فقد أصبح الرعب الأكبر المهدد لزوال روما، ولذا لم ترحم روما قرطاج قط، ولم تكن يوما رحيمة، وما عرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين.
وشخصية هانيبال مزيج من الرعب والقوة والفن والذكاء والشخصية الكارزمائية والتصميم والشباب المغامر. فهل يعقل أن يغامر ويقامر قائد في تلك الأيام على عبور جبال الألب في الشتاء مع الفيلة المعتادة على الطعام الوفير في المناخ الحار؟
هذا وأمثاله فعله هانيبال، ولكن أعظم المعارك التي شنها كانت تراسيمين حيث ذهلت روما وهي ترى قوات قرطاج تنزل عليها في ظهرها وكأن الجان حملتها وأنزلتها فوق شبه الجزيرة الإيطالية.
والقصة تبدأ من إسبانيا حيث كانت قرطاج في القسم السفلي من شاطئ المتوسط قد امتدت بأذرع هائلة تجارية في كل مجال البحر المتوسط. وحين نشأت روما كانت مدينة صغيرة لا تجرؤ على التنافس، ولكنها فعلت ذلك وهكذا ابتدأت الحروب البونية على فترة امتدت أكثر من قرن وكان هانيبال قائد الجولة الثانية المدمرة.
هانيبال كان طفلا صغيرا حين شحنه والده بالمرارة في حياته ضد روما، وهكذا نشأ من أجل هذه الرسالة، وإذ كان مميزا فقد أصبح معبود جنوده ومثلهم الأعلى، يمشي بهم وأمامهم إلى أصعب المهمات.
ومن إسبانيا بدأت الحملة العسكرية فمشت شرقا حتى صادفت قمم جبال الألب فتابعت سيرها فيها بين أعداء كثر، من صقيع قاتل، وثلج يغطي القمم يعس خلاله جيش طوله 25 كيلو مترا، وغارات من قبائل الجبال، وفيلة تحتاج للعلف بكميات خرافية.
وحسب تقديرات بعض العسكريين أن هانيبال فعل ما يعتبر في نظر الاستراتيجيين خطأ غير محتمل فيه هلك نصف جيشه، ولكن هذه الأمور العبرة فيها بالنتائج.
وحين رست قدماه في الأرض الإيطالية لم تقدر روما خطره حق التقدير فأرسلت له جيشا أهلكه، ثم حشدت له أفضل الفيالق بأفضل القادة، وكانت المعركة هذه المرة التي أخذت اسمها (كاني) أي الكماشة.
وتكتيك الكماشة هلك فيه الجيش النازي السادس بقيادة فون باولوس في الحرب العالمية الثانية، حين أحكم إغلاق الطوق عليه، ولولا وجود الطيران لأبيد في أيام معدودات، وهو ما حصل للجيش الروماني.
وخلاصة هذا التكتيك العسكري أن الجيشين يتقابلان بقلب وميسرة وميمنة وذيل مع الخيالة على الجوانب، ثم يحمى الوطيس ويهرع الأبطال في دخول بوابة الموت، وليس أسهل من قتل الإنسان وجرحه وإيذائه.
أما هانيبال فدفع القلب إلى الأمام ثم خطط له بالتراجع وكأنه ينهزم وهي خديعة، فيفرح العدو ويتقدم فتنسحب المقدمة أكثر فأكثر، وإذا أصبحت مقدمة جيش العدو قد غطست في عمق جيش هانيبال فهو يستجرها أكثر فأكثر في الوقت الذي تلتف الأجنحة تدريجيا على جوانب العدو، وحين يكتمل الطوق الجانبي تقوم الخيالة بالالتفاف على العدو من الخلف وهكذا يحكم إغلاق الدائرة على العدو، وفي هذه الحالة يقاتل الجيش بحوافه فقط ويصبح لهانيبال أشبه بقطعة لحم السلامي والشاورما فيقطعها شرائح بسهولة ويقضي على الجيش بأكمله.
وهكذا فقد قتل هانيبال في ذلك اليوم المشؤوم 80 ألف روماني من خيرة شباب روما، فلم يبق بيت وبر ومدر وكبير وصغير وقنصل وحقير إلا وقد خسر منه شاب وهلك يافع وذبح كهل..
بعد هذه المعركة بدأت روما تتعلم من هانيبال فن القتال وأن الحرب ليست شجاعة فقط بل علم استراتيجي تكتيكي يلعب فيه الذكاء والمناورة والخدعة والتربص والانتظار إلى آخر فنون الحرب. وبذلك نشأ العلم العسكري وتطور وما زال.