ملكة الغـُدَد (1 ـ 2)
سميت الغدد الصم، لأنها تلقي بمفرزاتها إلى الوسط الداخلي، أعني الدم، ولذا فهي صم مغلقة، وهذه الغدد صغيرة في حجمها ووزنها، ولكنها كبيرة في فعاليتها وتأثيرها، وملكتهم هي الغدة النخامية في قاعدة الدماغ، وهي تكوّن ما يشبه الملك الذي يتربع على العرش، وبقية الوزراء الذين يسيطرون على فعاليات الجسم ويصرفون أوامرها بقية الغدد، فالغدة النخامية هي التي تسيطر على فاعلية بقية الغدد في الجسم، وهي تترابط مع الإدارة العامة أي الدماغ ...
إن إدارة أمور البدن تتم بكيفيتين: الأولى سريعة عن طريق الأعصاب، والثانية بطيئة عن طريق الأخلاط الداخلية، التي تنقل الهرمونات إلى المؤثرة، وبهذه الكيفية يتزن البدن أمام الأمور المفاجئة السريعة، ومع الظروف المحيطة المتقلبة.
وهذه الهرمونات أو الحاثات، لها مراكز خاصة للإفراز، تسمى الغدد الداخلية، وتبلغ في الوزن مائة غرام لكل الغدد..
وتعتبر الغدة النخامية ملكة الغدد الأخرى، أو دماغ الغدد الأخرى، أو هي مفتاح للأخلاط البدنية، وهذه الغدة ترقد في تجويف عظمي في أسفل عظم القحف، ويسمى بالسرج التركي، وتبلغ في الوزن نحو نصف غرام، وفيها ثلاثة فصوص، أمامي وخلفي ومتوسط، ومن هذه الفصوص الثلاثة تفرز عشرة هرمونات تفعل خامل الجسم.
وهذه الغدة تقع من ناحية التشريح العصبي أسفل السرير البصري، ولذا فهي تتصل بمناطق ما تحت السرير، وهكذا فإن مركز القيادة العام يستقر في الدماغ، ومن هذا المركز يحدث الاتصال مع ملكة الغدد، وهذه بدورها تفرز الهرمونات التي تحث البدن على القيام بوظائفه.
وهنا نتساءل: كيف تؤثر هذه الهرمونات أو الحاثات أو الرسل النخامية فتقنع الغدة الدرقية، المبيض، الخصية، قشر الكظر، العظام، المفاصل، العضلات، الثدي، الجلد، العروق الدموية، عضلة الرحم، والكلية؟
وأقول: كيف تقنع كل هذه الأعضاء، وبكم من اللهجات واللغات، حتى تنشط وتشتغل؟ فإذا بالدرق يفرز التيروكسين، وإذا بالمبيض يهيئ البيضة الإنسانية التي تعتبر نقطة انطلاق تخلق الإنسان، وإذا بالخصية تهيئ الحيوانات المنوية، وإذا بقشر الكظر يفرز قرابة ثلاثين هرموناً لينظم الشوارد المعدنية والماء والسكر في الدم، كما ينظم ضغط الدم، وإذا بالعظام والمفاصل والعضلات تنمو بشكل متناسق متكامل حتى توصل الطفل الصغير إلى مرحلة الشباب والنضارة والقوة، وإذا بالثدي يفرز الحليب شراباً سائغاً للطفل، يبني جسمه وعظامه ودماغه ودمه وأخلاطه وغدد مفرزاته، وإذا بالجلد يفرز صبغاً خاصاً يلون الجلد بما يناسب حرارة المحيط، ومقدار نوره، وهكذا نرى الجلد الأبيض والأسمر والحنطي والأسود، وإذا بالعروق الدموية تتوسع وتنقبض بما يناسب حاجة البدن، وإذا بعضلة الرحم تتقلص وبشكل منظم، وفي وقت معين تخرج الجنين إلى درب الحياة، وإذا بالكلية تمتص المفرزات وتنظم السوائل، وتعدل المعادن، وتفرز البول السام، وتطلق الهيدروجين ، فكيف تمكنت هذه الملكة العظيمة أن تتحدث بكل لهجات ولغات شعبها المطيع؟
لا حرج في ذلك فهذا دأب الحكام المخلصين الذين يريدون أن يتفهموا مشكلات شعبهم حتى يحلوها فالأمير خادم لقومه، و"إنا كل شيء خلقناه بقدر".