إعادة العلاوات .. وثقافة الادخار

أعرف كثيرا من الأصدقاء من ذوي الدخول المتوسطة العليا وفوق المتوسطة والدخول العالية من وظائفهم المرموقة في القطاع الحكومي عانوا مشكلات كثيرة بعد قرار إيقاف المكافآت والبدلات قبل أقل من سنة، حيث إنهم وزعوا دخولهم على مصروفاتهم دون خطة للادخار لمواجهة الظروف الاستثنائية. ولقد فوجئت بما يقولونه لأني كنت على ثقة بأن لديهم مدخرات بصورة أو بأخرى، بل ربما لديهم استثمارات في سوق الأسهم أو السوق العقارية.
وجدت أن معظمهم يعمل بمقولة "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" وأن ما يدخرونه في شهور العمل يصرفونه في السفر صيفا لأن السفر أصبح ضرورة كما يقولون وليس مسألة كمالية يمكن الاستغناء عنها، خصوصا أن أغلبهم درس في الغرب لسنوات وبالتالي اعتاد على الأماكن والحياة الغربية ويجد المتعة والراحة عند زيارتها عند اعتدال أجوائها مقارنة بأجواء المملكة صيفا.
قلت لبعضهم كانت كل المؤشرات قبل قرار إلغاء المكافآت وبعض البدلات تشير إلى ذلك، فلماذا لم تتجهوا للادخار كبديل ضروري لمواجهة انخفاض الدخل حال إلغائها المتوقع؟ فكانت إجابة بعضهم: لم نتوقع ذلك، والبعض الآخر قالوا إنهم لم يعتادوا على ثقافة الادخار وإن المصروفات تزداد بزيادة الدخل وبسبب غلاء المعيشة وكثرة الالتزامات، مثل فواتير الكهرباء والماء، والجوالات، والمدارس، والجامعات، وأقساط السيارات ومتطلبات صيانة المنازل والسيارات، خصوصا أنهم ألحقوا أبناءهم بمدارس أهلية باهظة التكاليف، وأن أبناءهم اعتادوا على الإنفاق بما يتناسب ومستوى الأسرة الاقتصادي.
فإذا كان هذا حال أصحاب الدخول المتوسطة العالية وأصحاب الدخول العالية، فكيف حال أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة وما دونها لجهة الادخار؟ بكل تأكيد الوضع أكثر سوءا، ولقد وجدت أن معظم الإجابات تتركز حول عدم كفاية الدخل لمتطلبات الحياة الأساسية وشيء بسيط من الكماليات التي أصبحت في حكم الأساسيات، فكيف لهم أن يدخروا؟ وللأمانة عند التدقيق في بعض المصروفات وجدت أن بعضها بسبب العادات الاجتماعية الموروثة والحديثة حيث الولائم لأسباب تجاوزها الزمن، والهدايا الثمينة، والمشاركة في حفلات لمناسبات خاصة جديدة على المجتمع بفعل التواصل الحضاري والمدنية.
كلنا يعرف أن قدرة المجتمع على التوفير تجعله مجتمعا قادرا على مواجهة الصدمات المالية الفردية أو الجماعية التي تحدث لأسباب تتعلق بالفرد أو لأسباب تتعلق بالمجتمع ككل كالتي تحدث نتيجة الهزات والأزمات المالية أو الركود الاقتصادي الناشئ عن تباطؤ في المصدر الرئيس للدخل كما هو حال النفط بالنسبة لبلادنا المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن ثقافة الادخار ليست ترفا بل ضرورة لكي يواجه الفرد التحديات بمستوى معيشة لائق وكرامة محفوظة، حيث إن المدخرات تُمكِن الإنسان من استيعاب الصدمة الأولى والتعاطي مع الوضع بهدوء دون الحاجة لأحد ودون الحاجة إلى الديون وتكاليفها وما يترتب عليها من ضغوط مالية تمتد لسنوات.
وهذا يتضح في قصة نبي الله يوسف - عليه السلام - عندما طلبه الملك لتفسير حلمه بالبقرات السمان وهن سنوات الازدهار الاقتصادي واللواتي يأكلهن السبع العجاف وهن سنوات الكساد الاقتصادي، حيث وجههم يوسف - عليه السلام - بعد أن فسر الحلم لادخار بعض مما يحصدون من القمح في السنوات السمان لمواجهة صدمة السنوات العجاف حتى تعود الدورة الاقتصادية للانتعاش مرة أخرى بما يرسله الله من غيث "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)" سورة يوسف.
هذه الآيات وواقع الحال الذي نعيشه يؤكد أن الاقتصاد بين انتعاش واستقرار، وركود سواء على مستوى الفرد أو الدولة، وبالتالي فإن الهزات المالية متوقعة والادخار هو الحل الأمثل لمواجهتها، والادخار يكون في زمن الإنفاق القليل لمواجهة الارتفاع بالإنفاق لمتطلبات طبيعية، فالبعض يدخر لأبنائه وقت صغرهم للإنفاق على دراستهم العليا، حيث ترتفع مصروفاتهم بشكل كبير، وهذا ادخار للاستثمار في الأبناء ليكونوا موارد بشرية جيدة عالية الكفاءة والإنتاجية ليجدوا الوظائف والدخول المناسبة بخلاف الموارد سيئة التأهيل، أيضا يمكن استخدام المدخرات لمدة خمس أو عشر سنوات لتوفير مقدم شراء المسكن الذي يصل لنحو 15 في المائة من قيمة المسكن، حيث إن الكثير يستطيع دفع أقساط شراء المسكن لكنه لا يستطيع دفع المقدم لأنه لم يدخر المال اللازم لذلك.
الرأسمالية تتطلب مجتمعا لديه قوة شرائية ليشتري المنتجات لتشتغل المصانع وشركات الخدمات وتنمو وتتطور وتطور منتجاتها بشكل مستدام، كما تتطلب قوة ادخارية لتتوافر المبالغ في المصارف وفي أسواق المال لتستطيع الشركات المنتجة للسلع والخدمات الاقتراض والتوسع في أنشطتها للتنمية الاقتصادية، وبالتالي فإن الادخار يتجاوز حاجات الفرد إلى حاجات الاقتصاد، وهنا يجب أن تتدخل الدولة لنشر ثقافة الادخار بين مواطنيها ومقيميها لتحقيق كل أهداف الادخار على المستويين الجزئي والكلي معا. وللمعلومية هناك أكثر من صيغة للادخار فالبعض يشتري الذهب للاستعمال والادخار معا وهذا شيء جيد وينقذ كثيرا من الأسر عندما تمر بضائقة مالية، وهناك الادخار بشراء المسكن حيث يتم تحويل الإيجارات التي تذهب إلى غير رجعة إلى أقساط ترفع ملكية المشتري بالمسكن سنويا حتى يتملكه بالكامل بعد 15 أو 20 عاما وبذلك يكون قد ادخر مئات الآلاف من الريالات في مسكن يمكن أن يستفيد من ماله عند بيعه لاحقا.
أخيرا، هناك برنامج ستطلقه وزارة الإسكان بمسمى برنامج الادخار السكني بمشاركة من الدولة والمواطنين؛ لتوفير مسكن لهم بتمويل منخفض يتوافق مع عملية البيع على الخريطة، ويستهدف تمكين المواطن من توفير الدفعة المقدمة للمسكن الملائم، وأرجو من المواطنين الاستفادة من قرار "إعادة المكافآت" للادخار من خلاله أو من خلال أي آلية أخرى مناسبة لهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي