بيتان كبيران .. في تراث جدة التاريخية
في عام 2014 أصدرت منظمة اليونسكو العالمية قرارا باعتماد جدة التاريخية ضمن قائمة التراث العمراني العالمي، ويومها وقف الخلق يشيدون ويمتدحون هذا القرار التاريخي الذي يعزز ويؤكد أن مدينة جدة السعودية تملك تراثا عالميا معترفا به من منظمة اليونسكو العالمية.
وفي هذا المقال أود أن أسلط الضوء على بيتين عريقين كبيرين في جدة التاريخية، وهما بيت نصيف العريق الذي تشرف باستقبال الملك عبد العزيز- رحمه الله - في أول زيارة له إلى جدة التاريخية في عام 1344هـ، وكذلك بيت الجوخدار الوثير الذي يعد تحفة من تحف المعمار والبناء في تاريخ جدة التراثية.
إن من أجمل وأحلى بيتين في جدة ــ كما ذكرنا ــ ( بيت نصيف العريق وبيت الجوخدار الوثير)، ويقع البيتان في حارة اليمن، ويفصل بين البيتين العريق والوثير مسافة لا تزيد على 300 متر، ولقد استغرق بناء بيت الجوخدار نحو خمس سنوات، واستعان محمد نور جوخدار بأخواله بيت عطية، وهو بيت مشهور في أعمال النجارة وتصميم الرواشين الفارهة، ولذلك تميز بيت الجوخدار بطلاته ورواشينه المبدعة التي تطل على ثلاث جهات غربية وشمالية وجنوبية، ويتكون البيت من ثلاثة أدوار أسقفها عالية، وفوق الدور الثالث تقع ما كان يطلقون عليه اسم الطيرمة.
ويتكون الدور الواحد من مجلس وصفة وبيت الماء (حمام) ومركب (مطبخ) وخارجة، وتتميز الغرف بسعة الصدر، كما تعلو الأسقف لنحو أربعة أمتار، وكذلك يتقدم البيت دهليز (المدخل) يمتد كاللسان في جوف البيت، وفي وسط الدهليز درجتان واحدة على اليمين والأخرى على اليسار تلتقيان مرة أخرى في كل دور، وفي جوف الأرض يقع الصهريج، وهو مخزن كبير لمياه الأمطار التي يحتفظ بها للاستخدام طوال العام.
وتجدر الإشارة إلى أن الناس كانوا ومازالوا يقارنون بين بيت الجوخدار وبيت نصيف في فن البناء والعمارة، وكانت الغلبة تميل نحو بيت الجوخدار، ولكن بعد أن دخل الملك عبد العزيز- رحمه الله - بيت نصيف عقب التوقيع على اتفاقية تسليم جدة في عام 1344هـ دخل بيت نصيف التاريخ.
كذلك يؤخذ على بيت الجوخدار أن البيت الرائع الجميل أهمل تماما وهجره ملاكه وأصبح الآن مهملا لا يسكنه إلا البوم، وحينما تحدثت مع الصديق الأخ محمد جوخدار قال: الخلافات بين الورثة أجهضت كل التطلعات!
وكان الأجدر أن يستمر بعض كوادر بيت الجوخدار في الإشراف على البيت الوثير ويحولونه إلى مزار سياحي ومتحف يحتفظ بأثاثه ونقوشه ومقتنياته، ولاسيما أن أمين جدة الأسبق الدكتور المهندس محمد سعيد فارسي كان معجبا جدا بالبيت، وكان يأخذ كبار الزوار من رؤساء ووزراء إلى بيت الجوخدار وبيت نصيف ليطلعهم على فن العمارة في جدة التاريخية.
أما بالنسبة لبيت نصيف فهو الآن من أملاك الدولة ولم يبق لبيت نصيف إلاّ الاسم التاريخي، ويقول الشيخ محمد بن حسين نصيف عن قصة بناء بيت نصيف: قبل 100 عام كان البناؤون كلهم من أبناء الوطن، وقد جمعهم جدي عمر أفندي نصيف - رحمه الله - ليقوموا ببناء بيتنا هذا الذي كنا نسكنه منذ نحو 100 عام وكان رئيس المعلمين البنائين إذ ذاك هو المعلم "الصرصار"، وكان عاميا وأميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتخرج من مدرسة هندسية بل لم يخرج من الحجاز مطلقا، ومع ذلك فإنه وضع خريطة على الورق لبناء هذه الدار، وقد رسم فيها كل تقاسيم المنزل الكبير وشبابيكه وأبوابه وغرفه وممراته وارتفاعه وكل ما يلزم رسمه، وقد انتهى بناء هذا المنزل في أربع سنوات، وكانوا قد راعوا في البناء أن تتخلله أكبر كمية من الهواء في كل مكان نظرا لحرارة مدينة جدة، ولذلك ترى سقوفه عالية، كما جعلوا سُمْك جدرانه نحو متر، ووضعوا من باب الاحتياط، لتوفير المياه العذبة صهريجا كبيرا بنوه على شكل قبو، لتنزل فيه مياه الأمطار من أسطح المنزل، وحينما فرغ البناؤون والنجارون والمنقلون من بناء البيت من كل جانب، أكرمهم جدي وأمر لهم بهدايا طيبة، وكساهم، وكسا من دعوهم من معلمي مكة المكرمة وبنائيها، ونجاريها ونواريها.
وإذا كانت الدولة قد ابتاعت بيت نصيف وجعلته تحفة تراثية يزورها السياح، فإن بيت الجوخدار التراثي يئن ويتوجع من أمراض الشيخوخة التي انتشرت في جميع طوابقه وأوصاله حتى أصبح آيلا للسقوط، وإذا سقطت هذه التحفة المعمارية التراثية ــ لا قدر الله ــ فإن الخاسر هو جدة التاريخية وليس بيت الجوخدار فحسب.
لذلك نحن نتمنى من الدولة ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أن تبتاع بيت الجوخدار وتضمه إلى مقتنياتها التراثية مثله مثل بيت نصيف.
بمعنى نرجو من هيئة السياحة والتراث الوطني ألا تنتظر حتى يتحرك أحفاد بيت الجوخدار لترميم وتلميع البيت الأثري الكبير، لأنه من خلال اتصالاتي المباشرة مع بعض أحفاد بيت الجوخدار، أيقنت أن تحرك أبناء وأحفاد بيت الجوخدار لترميم بيتهم التراثي الرائع سوف يستغرق وقتا طويلا جدا، بل هو في الواقع سراب يصعب إدراكه، فالأسرة انتشرت في المخططات الجديدة وضعفت الأواصر بين أفرادها، ولم يعد هناك أمل في وصول الأجيال إلى اتفاق لتدبير المال اللازم لترميم بيت العائلة وإعادة هندسته ليعود البيت إلى سابق عهده كواحد من أهم التحف التراثية في جدة التاريخية.
إذن ننتظر مبادرة إيجابية من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.