العقود من الباطن: تعثر المشاريع وسوء التنفيذ
عندما تتم ترسية مشاريع البنية التحتية كالطرق، السفلتة، الإنارة، الصرف الصحي، والمياه، ونحو ذلك من المشاريع الحكومية التنموية، فإنه وفي الغالب يقوم المقاول الرئيس الذي تعاقدت معه الجهة الإدارية لتنفيذ المشروع بالتعاقد من الباطن مع مقاول آخر لتنفيذ هذا المشروع، وهو ما يسمى بالعقود من الباطن أو مقاولي الباطن، وهذا ينطبق على التعهدات والتوريدات ونحو ذلك.
وهذه الظاهرة تتميز بها السوق السعودية، وهي ليست مرفوضة من الناحية القانونية، فالمقاول الرئيس يبقى هو المسؤول أمام الجهة الحكومية المتعاقدة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نقيم أعمال المقاولات من الباطن ونحو ذلك من العقود الإدارية التي ينفذها مقاولون غير المتعاقد معهم؟
إن الواقع يشهد أن هذه العقود لم يتم تنفيذها بالشكل المطلوب، وأدت في بعض الحالات إلى تعثر وتوقف أو تنفيذ ولكن بغير المواصفات التي تم التعاقد بها، ما أدى إلى وجود عدد كبير من القضايا أمام المحاكم في العقود الإدارية وخصوصاً المقاولات بالذات، فالجهة الحكومية تطالب المقاول الرئيس وقد تصادر خطاب ضمانه وتكمل المشروع على حسابه بسبب عدم تنفيذ المشروع من قبل المقاول من الباطن، كما أن المقاول الرئيس أيضاً ـ وبموجب العقد الذي وقعه مع المقاول من الباطن ـ يقوم بدوره برفع دعوى لمطالبة المقاول من الباطن وتحميله الأضرار التي لحقت به، فضلاً عن مصادرة خطاب الضمان الذي قدمه.
إن هذا الوضع الذي أساء كثيراً إلى المشاريع التنموية يرجع إلى أنه لا توجد نية ورغبة قوية لدى الجهات الحكومية في إلزام المقاول الرئيس الذي تم ترسية المشروع عليه لتنفيذ العقد من قبله مباشرة، وتحت إشرافه وبآلياته وعماله وموظفيه، بل الباب مفتوح لكل مقاول رئيس في أن يجير العقد إلى مقاول آخر من الباطن، وهنا تضيع المسؤولية بين المقاولين من الناحية العملية، وتظهر روح الاتكالية وعدم الرغبة والجدية في تنفيذ المشروع، فالمقاول الرئيس يريد أن يتحصل على المنفعة المالية التي تمثل الفرق بين قيمة المشروع الذي تم ترسيته عليه وتكلفة المقاول من الباطن، والذي دائما يأخذ المشروع وينفذه بسعر أقل بالتوفير الشديد في المواد وكمياتها وجودة العمل ومدة التنفيذ.
إننا نقف أمام بوابة تنموية جديدة، بل إنها مرحلة تاريخية في نهضتنا العمرانية، وهي غير مرتبطة بطفرة طارئة، بل إن هناك عوامل عديدة منها الموازنة العملاقة التي تضع في حساباتنا استكمال البنية التحتية في المدن الرئيسية والمحافظات والقرى، كما أن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية إلى غير ذلك من الأسباب التي لا مجال لذكرها، ولكن المجال لتوضيح المخاطر الكبيرة التي تترتب على تقنين وتشريع وإجازة أعمال العقود من الباطن.
ولعل أكبر هذا المخاطر أن هناك عددا قليلا من المقاولين ممن تنطبق عليهم الشروط في تولي وإنجاز المشاريع التنموية بسبب تصنيفهم كمقاولين درجة أولى لملاءتهم المالية والفترة الزمنية الطويلة التي أمضوها في أعمال العقود مع الجهات الحكومية مع أن بعض أولئك المقاولين، إن لم يكن جميعهم، لا ينفذون بواسطة شركاتهم الأعمال التي تسند إليهم، بل نجدهم يتسابقون إلى تقديم عروضهم إلى الجهات الحكومية بطلب ترسية المشاريع الجديدة عليهم ثم تكليف مقاولين من الباطن بتنفيذها. وهذا زاد أولئك المقاولين المحتكرين المشاريع الحكومية الكبيرة ملاءة مالية ومكنهم من الحصول على المزيد، أما عن التنفيذ فإنه أمر لا يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لهؤلاء المقاولين، فلديهم طوابير من المقاولين متوسطي الحجم أو صغار المقاولين الذين يتم انتقاؤهم وفقا لعروض الأسعار التي يقدمونها، أما الجودة والدقة في التنفيذ فهي غير مطروحة البتة.
إن المأمول أن تقوم الجهات الحكومية ـ وبغرض خدمة المصلحة العامة ـ بإلزام المقاولين الذين انطبقت عليهم الشروط وتم التعاقد معهم في القيام بتنفيذ المشاريع وعدم السماح لهم بتنفيذها من خلال مقاولين من الباطن، ذلك أن الشروط إن انطبقت على المقاول الرئيس فإنها لا تنطبق على المقاول الباطن، ولا يمكن أن يتم النظر في هذا الموضوع، وليس من المستحسن النظر في هذا الموضوع من الزاوية القانونية فقط، فالضمانة الحقيقة للجهة الحكومية ليس وجود خطاب ضمان يمكن مصادرته، فالأمر أكبر من ذلك.
يجب أن تكون الضمانة الحقيقة في إلزام المقاول الرئيس بتنفيذ العقد، ومن خلال شركته أو مؤسسته التي تم التعاقد معها، وإذا كان هناك ضرورة لوجود مرونة تتطلبها بعض العقود فإنه من الممكن أن يتم تحديد العقود الإدارية التي يمكن تنفيذها بواسطة مقاول من الباطن من خلال نشاطات معينة، كالتوريد والتشغيل مثلاً، أو تلك العقود التي لا تتجاوز قيمتها 50 مليون ريال مثلاً.
من المؤسف أن تؤول بعض المشاريع إلى السحب من المقاول المتعاقد معه وإعادة ترسيتها إلى مقاول آخر لإكمال ما بدأه الأول، ففي ذلك إضرار بالمواطنين المستفيدين من هذا المشاريع التنموية، فهل هناك ضرورة للاستعانة بمقاولين من الخارج لتنفيذ المشاريع الحكومية لضمان الجدية والجودة؟