إميلي روته .. أميرة عربية بروح ألمانية

إميلي روته .. أميرة عربية بروح ألمانية
إميلي روته .. أميرة عربية بروح ألمانية
إميلي روته .. أميرة عربية بروح ألمانية
إميلي روته .. أميرة عربية بروح ألمانية

قد يبدو من اسم إميلي روته أنها سيدة أوروبية، لكنها في حقيقة الأمر أميرة عربية من أسرة حاكمة عريقة، هي أسرة البوسعيد حكام عمان وزنجبار. كان والدها السيد سعيد حاكما عاقلا مدبرا وقائدا مظفرا، بعيد الهمة واسع الطموح، وصل نفوذه إلى شرق إفريقيا وأدخل جزيرة زنجبار في حكمه، وهناك في زنجبار ولدت السيدة سالمة، لأم شركسية الأصل اسمها جيلفيدان. عاشت السيدة سالمة طفولة سعيدة مدللة مترفة، متنقلة مع أمها بين قصور والدها وإخوانها وأخواتها، وكانت بخلاف نظيراتها من البنات مولعة بالألعاب والرياضات التي تخص الأولاد، مولعة بصعود الأشجار العالية الشاهقة الارتفاع، والمبارزة واستعمال السلاح، والرماية بالبندقية وركوب الخيل والفروسية، وكادت أن تفقد حياتها بسبب هذه الرياضات، وتعرضت للخطر عدة مرات، وتعلمت الكتابة والقراءة في بيئة لا تسمح للفتاة بتعلم الكتابة، وتعاقب من تفعل ذلك. وكان أخوها الأكبر ماجد أقرب إخوتها إلى نفسها.

ظلت سالمة على هذه الحال سعيدة حتى بلغت الثانية عشرة من عمرها، حينما هبت رياح التغيير مؤذنة بوفاة والدها السلطان سعيد، عندها انفرط العقد وظهر الصراع علانية بين أبنائه وبناته، وانطلقت الأهواء والرغبات من عقالها، وجرت إلى أنواع من الصراع والكيد والمؤامرات.

###خلاف ومؤامرة

كان أخوها ماجد بن سعيد هو الذي تولى السلطة بعد وفاة أبيه، وماجد كما أسلفنا أقرب إخوتها إلى نفسها، وهو الذي عوضها بحنانه وعطفه عن فقد الأب والأم، وكانت لها أخت أكبر منها اسمها خولة، حباها الله جمالا خلابا وحسنا فتانا، وشخصية آسرة مع خلق رفيع وأدب جم وذكاء وقاد، وقد فتنت سالمة بشخصية أختها خولة وأصبحت لشدة تعلقها بها لا تعصي لها أمرا، لكن العلاقة بين خولة وماجد اعتراها شيء من الفتور، تطور إلى القطيعة التامة، بسبب أخيهما برغش بن سعيد، الطامع في سلطة زنجبار، وقد استطاع برغش بدهائه أن يجذب خولة إلى صفه وحزبه في مؤامرة ضد ماجد.

#2#

أما سالمة فقد كانت تعيش خلال هذه الفترة في بيت واحد مع أختها خولة، وقد حاولت الأخيرة جرها إلى هذه المؤامرة وإقناعها بأهدافها، وبعد تردد عدة شهور انساقت سالمة دون اقتناع أو على حد تعبيرها دون شعور أو اختيار إلى صف خولة وبرغش، وانضمت إلى الثورة المطالبة بالسلطة، ودفعت في سبيل ذلك كثيرا من مالها وثروتها، لكن الثورة فشلت، وأرغم برغش على الاستسلام والرحيل إلى الهند، أما سالمة فقد عاملها أخوها ماجد بكل نبل وتسامح، فصفح عنها، وعفا عن زلتها هي وأختها خولة.

###العاشقة

عاشت سالمة فترة عصيبة، ومرت بأزمة نفسية خانقة، وفي ظل هذه الظروف الحالكة سكن إلى جوارها شاب ألماني اسمه هنريخ روته، يعمل في شركة ألمانية في زنجبار، فتعرفت عليه وشعرت بالارتياح له، وتطور الأمر إلى حب وعشق وغرام، فقد بهرها فيه أوروبيته ووسامته وطباعه وعاداته، وجذبها إليه شرقيتها العريقة ونسبها العالي وبشرتها السمراء وعيناها النجلاوان، كما بهره فيها شبابها المتفتح، وطبعها المتحفز، وحبها للتحدي واقتحامها المخاطر والأهوال في سبيل الإتيان بالأوابد والغرائب من الأعمال، وسمع بطبيعة الحال أخبارها، فاختلط لديه واقع الحال بأساطير الشرق، وشخص السيدة سالمة بأطياف شهرزاد ورؤى "ألف ليلة".

###الهرب

حاولت العشيقة أن تحصل على موافقة إخوتها على الزواج من الشاب الألماني، إلا أنهم رفضوا، فاتفقت مع زوجة القنصل البريطاني على خطة للهرب، حيث ركبت في إحدى الليالي زورقا نقلها إلى باخرة حربية بريطانية، وما أن اعتلت ظهر السفينة حتى أبحرت بها شمالا متجهة نحو عدن في 26 آب 1866. وفي عدن نزلت في ضيافة عائلة إسبانية تعرفت عليها في زنجبار وأقامت عندها عدة أشهر، أما عشيقها الألماني فقد كان مشغولا هذه الفترة بتصفية حساباته وأعمال شركته، ولما لحق بها ذهبا سويا وتم تعميدها باسم إميلي روته، بعد أن تحولت من الإسلام إلى المسيحية، ثم تمت مراسم الزواج، وبعد عدة أيام سافرا سويا إلى هامبورج في ألمانيا في شهر مارس من عام 1867، حيث استقبلها أعضاء أسرة زوجها بترحاب حار.

#3#

تكيفت سالمة أو إميلي روته مع الحياة الجديدة، وعاشت - على حد قولها - حياة سعيدة هانئة، لكنها لم تستمر سوى ثلاث سنوات، فقد توفي زوجها عام 1870 إثر حادث خطر، مخلفا منها ثلاثة أطفال، بنتين وولد، عمر أصغرهم ثلاثة أشهر.

وكانت التعاسة والشقاء قدرها، فما أن فكرت بعد وفاة زوجها في العودة إلى وطنها زنجبار حتى فوجئت بخبر وفاة أخيها الطيب المتسامح النبيل ماجد، ليتولى السلطة بعده أخوها برغش، الذي تصفه بالحقد والقساوة، الذي أغضبه منها تصالحها مع أخيها ماجد بعد فشل الثورة التي أشرنا إليها سابقا.

ولكي نتعرف على بعض الشقاء الذي لازمها خصوصا بعد وفاة زوجها، فسنقرأ هذا المقطع اليسير من مذكراتها "وبقيت بعد هذا - أي وفاة زوجها - سنتين في هامبورج لم يفارقني فيها سوء الحظ، وقد فقدت مقدارا كبيرا من ثروتي، بسبب أخطاء بعض الناس الذين وثقت بهم، وأحسست بالنفرة من هذا المكان الذي شهد كثيرا من أيام سعادتي، وزاد في ألمي ازورار بعض أهل البلد عني، وعدم معاملتهم لي المعاملة التي تليق بي".

لذلك قررت أن تنتقل إلى مدينة دريسدن، حيث كونت صداقات طيبة، وفي عام 1875 نشرت الصحف خبر زيارة سيقوم بها أخوها برغش سلطان زنجبار إلى لندن، فسرت سرورا عظيما بذلك وثارت شجونها، فاتخذت قرارها بالسفر إلى لندن لمقابلة برغش والمصالحة معه، لكن الحكومة البريطانية التي ستوقع اتفاقيات مع سلطان زنجبار، خشيت أن تكون إميلي روته مبعوثة من قبل الحكومة الألمانية إلى أخيها للتأثير فيه والإضرار بالمصالح البريطانية، فأخذت تخادعها وتستجوبها حينا، وتهددها حينا آخر، واستطاعت بهذا الأسلوب منعها من مقابلة برغش.

###عودة إلى ملاعب الطفولة

ظل الحلم بالعودة إلى زنجبار يعاود سالمة بين الفينة والأخرى، وطلبت من الحكومة الألمانية مساعدتها على ذلك، وبينما هي في غمرة أحزانها وهمومها إذ وصلت إليها على غير انتظار رسالة عاجلة من وزارة الخارجية الألمانية، تطلب منها الاستعداد للسفر إلى زنجبار، ويا لعظم فرحتها وشدة سرورها بهذه الرسالة، وفي اليوم الأول من تموز عام 1885م بدأت مع أولادها الرحلة الطويلة من برلين إلى بريسلو ثم فيينا ومنها إلى تريست، بعدها أبحرت بهم السفينة فينوس نحو جزيرة كورفو، وتستمر الرحلة إلى أثينا ثم كانديا حتى ترسو في الإسكندرية، وما إن رأت الإسكندرية أول منطقة تقابلها من مناطق الشرق العربي حتى خفق الفؤاد، وانتابها شعور غريب وصفته بقولها "ما إن وطئت قدماي أرض الإسكندرية وصرت بين مساجدها ومنابرها ونخيلها حتى طغى علي شعور غامر بالشوق والحنين للأهل والأوطان". وبعد إقامة يومين في الإسكندرية واصلت إبحارها إلى بور سعيد، ثم عدن، ومنها إلى زنجبار، ولما رأت أرض الوطن كتبت تقول "غبت عن الوجود في تأملات وذكريات، فانهالت أمام ناظري صور طفولتي وشبابي في هذه الأوطان، ثم ما جرى لي بعد ذلك من غرائب الأحداث وصروف الزمان، فعجبت لتفاهة الإنسان في هذا الكون، ولغرابة الصدف في هذه الحياة".

#4#

وصلت الأميرة إلى زنجبار، وأثارت هذه الزيارة قلق الإنجليز وقلق أخيها السلطان، ففرضا عليها رقابة صارمة وحصارا محكما، أما إخوانها وأخواتها وأقاربها وأصدقاؤها فإنها لم تلتقِ بأحد، رغم الرسائل التي أرسلوها إليها يبدون رغبتهم بزيارتها في السفينة، وأن تزورهم هي في بيوتهم، لكنها كانت ترفض وتعتذر نزولا عند حكم الظروف السائدة، وإبعادا للطرفين عن المشكلات والمتاعب. وفي هذه الرحلة طالبت أخاها السلطان بحقوقها وميراثها، فعرض عليها ستة آلاف روبية كتسوية نهائية لكل حقوقها، ولم تتسلم سالمة شيئا، ولم تعد الحكومة الألمانية حريصة على المطالبة بحقوقها، فقد طغت مصلحتها السياسية في المنطقة على مصلحة المواطنة الألمانية البرنسيس إميلي روته، وتركت زنجبار رغم أنها تعشقها وترغب الحياة فيها مع أولادها، لكن لا مقام لها في بلد ناصبها سلطانه العداء. وعاشت سالمة فيما يبدو بقية حياتها في إنجلترا، تعاود بين فترة وأخرى زيارة ألمانيا، وفي إحدى هذه الزيارات توفيت في ألمانيا عام 1924م، وكان لها من العمر 80 عاما، مخلفة "مذكرات أميرة عربية" ومذكرات أخرى لم تنشر سجلت فيها انطباعاتها عن الحياة الأوروبية، ومجموعة كبيرة من الرسائل المتبادلة بينها وبين أهلها وأقاربها وأصدقائها، وهي أيضا لم تنشر.

أما أولادها فابنتان لا نعرف عنهما شيئا وولد أسمته على أسم أبيها: رودلف سعيد روته، وقد ورث هذا الولد عنها حب أبيها كما ورث اسمه، وعشق تاريخه وتاريخ زنجبار وعمان وعني به عناية فائقة، فقد ألف كتابا مهما في هذا الموضوع بعنوان "السيد سعيد بن سلطان، سيرته ودوره في تاريخ عمان وزنجبار". وقد طبع كتابه هذا سنة 1929، وأهداه إلى والدته، وكتب في إهدائه "إلى أمي السيدة سالمة "إميلي روت" بنت السلطان سعيد بن السلطان.. التي عاشت حياتها الطويلة هذه من أجل رسالتها العظمى، وهي الكشف للغرب عن أصالة المرأة الشرقية ونبل خصالها"، موقعا إهداءه هذا باسمه العربي فقط. وكلام ابنها يتضح جليا عند قراءة مذكراتها، فهي تدافع رغم انتقالها إلى المسيحية عن الإسلام، وتفضل حياة وأخلاق العرب والمسلمين على الأوروبيين.

###مذكراتها

كتبت سالمة بنت سعيد مذكراتها، وصدرت للمرة الأولى بالألمانية عام 1886، ثم ترجمت إلى الإنجليزية عام 1888، وبعدها بعام ترجمت إلى الفرنسية، ثم ترجمت إلى الإنجليزية مرة أخرى ونشرت عام 1905 في نيويورك، كما ترجمت مذكراتها إلى الإسبانية. وعن الطبعتين الإنجليزيتين قام عبدالمجيد القيسي بترجمتها إلى العربية عام 1974، وطبعت ترجمته عدة مرات في وزارة التراث القومي والثقافة في عمان تحت عنوان "مذكرات أميرة عربية"، ثم ترجمت سالمة صالح المذكرات من الألمانية إلى العربية، وصدرت عام 2002، متهمة ترجمة القيسي بعدم الدقة، لأنها ترجمت عن غير لغة الكتاب الأصلية.

الأكثر قراءة