جامعة الملك عبد الله وبناء خطوط الإمداد الخلفية

كلما تمعن المرء في فكرة إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تبدت له ملامح جديدة من الإبداع في ذلك المشروع الحضاري الكبير من حيث التوقيت, اختيار المكان, وتحديد الأهداف. تلك الملامح الإبداعية تحمل في ثناياها حزمة واسعة من التحديات التي تتطلب, إلى جانب المال والإدارة الجيـدة, فكراً غير تقليدي قادراً على تسخير الفرص والإمكانات المتاحة في سياق خارج الإطــار المألوف للآخرين. بالطبع لا يمكن, في مقال قصير كهذا, حصر أو سرد جميع التحديات التي تواجهها الجامعة في مهمتها لإنشاء مؤسسة راقية للبحث العلمي في المملكة, إذ إن القائمة بداية تعد طويلة, كما أنها تزداد يوماً بعد يوم كما هو متوقع في كل عمل يأخذ صاحبه إلى آفاق جديدة.
لكن يمكن القول إن من بين التحديات الرئيسة التي لا بد للجامعة أن تتعامل معها اختصار الزمن اللازم لتأسيس برامج ذات شأن في مجالات العلوم والتقنية, ثم المحافظة على استمرارية تلك البرامج في بيئة عمل مستقرة تفضي إلى بناء معرفة تراكمية على المدى الطويل. وكنت قد كتبت مقالاً في " الاقتصادية " بتاريخ 4/1/1428هـ تناولت فيه بعض الخيارات التي تلجأ إليها عادة مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة ودول أخرى للالتفاف على عامل الزمن في بناء قدراتهم, وهي خيارات متاحة أمام جامعــــة الملك عبد الله.
ومما يحُمد للجامعة أنها شرعت في وقت مبكر نسبياً في التعامل مع " قضية عامل الزمن " إذ أبرمت اتفاقات تعاون مع عدد من مراكز الأبحاث المرموقة في كل من أمريكا الشمالية وآسيا, وأطلقت حملة واسعة للتواصل مع المبدعين من أبنائنا المبتعثين في الخارج لتمويل ورعاية أبحاثهم كخطوة أولى تمهيداً لنقل تلك الأبحاث والمشتغلين بها إلى معامل الجامعة في "ثول" على ساحل البحر الأحمر. كما أطلقت الجامعة حملة أخرى لاستقطاب نوعيات متميزة من طلبة الدراسات العليا في العلوم والتقنية من أرجاء المعمورة للإنخراط ضمن طلبة الدفعة الأولى التي من المخطط لها أن تبدأ بإذن الله بعد عامين من الآن. كل تلك المبادرات التي أطلقتها الجامعة تسير جنباً إلى جنب مع الجهود المتواصلة في جذب عدد كبير من الخبرات العالمية لهيئة التدريس.
غير أن التحدي الآخر الذي ستواجهه جامعة الملك عبد الله ألا وهو الحفاظ على استمرارية برامج البحث العلمي يتطلب عملاً مؤسسياً تختلف طبيعته عن الأعمال التي اعتادت الجامعات المماثلة في الغرب الاضطلاع بها. إذ لا تجد تلك الجامعات هناك عناء في الحصول على ما تحتاج إليه من " خامات بشرية " أُعدت بشكل جيد في مراحل التعليم العام, بينما في المقابل تجد جامعة الملك عبدالله نفسها أمام مصادر محلية محدودة للغاية. لذا قد يكون من الحكمة أن تفرد الجامعة من الآن برنامجاً تخصص له موارد مالية كافية لتنمية وتأهيل تلك المصادر. إذ أصبحت الفرصة مواتية أمام الجامعة لتصميم مناهج في التعليم العام توفر لها ما تحتاج إليه من مخرجات بعد أن قررت وزارة التربية والتعليم في المملكة في منتصف العام الجاري منح المدارس الأهلية مرونة في اختيار مناهجها ولغة تدريسها. ومن ثم لم تعد هناك ثمة عقبة نظام أو لوائح فيما لو شاءت الجامعة تبني مجموعة مختارة من بعض المدارس الخاصة لتدريس برنامج يقود في النهاية إلى " إنتاج خامات " وطنية صالحة لدفع عجلة البحث العلمي في الجامعة بشكل منتظم على المدى البعيد.
إن البحث العلمي أصبح إحدى كبريات الصناعات في العالم, وكأي صناعة أخرى لا بد له من خطوط إمداد خلفية آمنة ومستقرة, وأحسب أن ما قد تبنيه جامعة الملك عبد الله من خطوط لن يقتصر نفعها عليها فحسب, بل سيمتد ذلك النفع إلى الجامعات السعودية الأخرى والتعليم بكل مراحله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي