كيف يستنزف انقطاع الإنترنت اقتصاد إفريقيا بصمت؟

كيف يستنزف انقطاع الإنترنت اقتصاد إفريقيا بصمت؟
القارة باتت تعتمد بشكل متزايد على الحلول الرقمية.

في إفريقيا التي تشهد رقمنة متزايدة، لم يعد قطع الإنترنت مجرد وسيلة لإسكات الأصوات، بل بات يستنزف الاقتصادات ويقوض مسيرة القارة نحو نمو شامل ومستدام.

عمليات انقطاع الإنترنت التي تُعرف بأنها تعطيلات متعمدة للإنترنت أو وسائل الاتصالات الإلكترونية تُفرض للسيطرة على تدفق المعلومات، أصبحت أداة سياسية شائعة في جميع أنحاء أفريقيا.

وفي حين يصعب قياس الخسائر الاقتصادية الكاملة لهذه الانقطاعات بدقة، تُثبت نماذج موثوقة، مثل حاسبة NetLoss التابعة لمنظمة "إنترنت سوسايتي"، أن حتى الانقطاعات القصيرة يمكن أن تُلحق تكاليف باهظة بالاقتصادات الوطنية.

تُعطّل الانقطاعات التجارة الإلكترونية والمدفوعات العابرة الحدود، وتشل خدمات الدفع عبر الهواتف المحمولة، وتقطع شريان الحياة عن ملايين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمشاريع غير الرسمية التي تعتمد على المنصات الرقمية في تسيير أعمالها، بحسب موقع المنتدى الاقتصادي العالمي.

مع استمرار نمو الاقتصاد الرقمي في إفريقيا، تشكل هذه الانقطاعات تهديدا متصاعدا للاستقرار المالي والتنمية طويلة الأجل، ومع وجود 500 مليون متسوق عبر الإنترنت في 2025، من المتوقع أن تصل قيمة سوق التجارة الإلكترونية في إفريقيا إلى 940 مليار دولار بحلول 2032.

وفي الوقت نفسه، تسعى القارة السمراء إلى تعزيز مكانتها كمُصدّر للخدمات الرقمية، حيث يُتوقع أن تصل قيمة هذا القطاع إلى 74 مليار دولار بحلول 2040.

كما تشير التوقعات إلى أن سوق المدفوعات الرقمية العابرة للحدود ستصل إلى تريليون دولار بحلول 2035. وقد صُممت منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية لتعزيز هذا الزخم من خلال تعزيز الشمول الرقمي والترابط التجاري.

في قلب هذا التحول، تقف ملايين المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومعظمها تعمل في الأسواق غير الرسمية، وتعتمد على الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي والأدوات الرقمية للبيع والتواصل والنمو، غير أن هذه المكاسب تبقى هشّة؛ إذ يمكن أن ينهار التقدم في لحظات إذا تعطّل الاتصال بالإنترنت.

تحوّل مكلف: انقطاعات في الإنترنت وشلل اقتصادي

تمسّ انقطاعات الإنترنت جميع جوانب الاقتصاد، من مراكز التكنولوجيا في نيروبي إلى الأسواق الشعبية في كوناكري، وتُعد التجارة الإلكترونية من أكثر القطاعات تضررا، إذ تعتمد عملياتها على الاتصال الفوري لإدارة الطلبات والمخزون والمدفوعات.

وعندما ينقطع الاتصال، يتوقف النشاط التجاري. حتى المتاجر التقليدية باتت تتأثر، مع اعتماد كثير منها اليوم على أنظمة نقاط بيع مرتبطة بالإنترنت.

وتواجه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ضربة قاسية أيضا. في البيئة الرقمية الناشئة في إفريقيا، تبنّت هذه المشاريع تطبيقات مثل واتساب وفيسبوك ماركت بليس وإنستجرام لإدارة المبيعات والوصول إلى الزبائن والترويج للخدمات.

ونتيجة محدودية البدائل وقلة الموارد المالية الاحتياطية، يعني الانقطاع غالبا توقف العمل بشكل كامل، أو حتى إغلاق بعض الأنشطة.

كما تطال الآثار قطاعي المال والتجارة، حيث تتعطل معاملات الدفع عبر الهواتف المحمولة، وتصبح البنوك خارج الخدمة، وتنهار سلاسل التوريد الإقليمية.

ولأن القارة باتت تعتمد بشكل متزايد على الحلول الرقمية، فإن هذه الانقطاعات تُحدث خسائر قصيرة المدى، إلى جانب تداعيات إستراتيجية بعيدة المدى.

في حين أن خسائر الناتج المحلي الإجمالي هي النتيجة الأكثر وضوحا لانقطاعات الإنترنت، إلا أن تكاليفها الخفية أعمق وقد تكون أكثر ضررا على المدى الطويل.

أولا، تقوض عمليات الإغلاق ثقة الجمهور بالمؤسسات. فعندما تستخدم الحكومات الاتصال بالإنترنت كوسيلة للتحكم، يبدأ المواطنون في التشكيك في موثوقية الخدمات الرقمية، لا سيما في القطاعات الحيوية كالخدمات المصرفية والرعاية الصحية والتعليم.

وهذا يقلل معدلات الإقبال على هذه الخدمات ويضعف خطط التحول الرقمي.

ثانيا، يُعيق مناخ عدم اليقين التنظيمي الاستثمار الأجنبي والمحلي. ويحتاج المستثمرون في قطاعات كالتكنولوجيا المالية والتجارة الإلكترونية والبنية التحتية الرقمية إلى الاستقرار والقدرة على التنبؤ. والانقطاعات المتكررة أو ذات الدوافع السياسية تزيد من المخاطر وتدفع رؤوس الأموال إلى وجهات أكثر أمانا.

ثالثا، هناك خطر حقيقي بحدوث فقر رقمي، إذ يتسبب تعطل الوصول إلى المعلومات والأسواق ومنصات التعلم الرقمي في اتساع فجوة عدم المساواة، خصوصا بين الشباب وسكان الأرياف ورائدات الأعمال. كما يهدد سنوات من التقدم في محو الأمية الرقمية، والشمول الاقتصادي، والابتكار.

ما حجم الخسائر؟

وفقا لحاسبة NetLoss، يمكن حتى للانقطاعات القصيرة واسعة النطاق أن تكبّد الدول ملايين الدولارات من الخسائر. ورغم تفاوت الأرقام من بلد لآخر، تؤكد المنهجية أن الأثر الاقتصادي فوري وملموس.

هل من حل؟

الحل لمشكلة انقطاعات الإنترنت في إفريقيا يتطلب إرادة سياسية، وقوانين واضحة، وتعاون بين جميع الأطراف. وهناك مؤشرات مشجعة، حيث أصدرت محاكم في إفريقيا خلال 2025 قرارات مهمة تعتبر قطع الإنترنت انتهاكا لحقوق المواطنين.

مثلا، حكمت محكمة العدل التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بأن قطع الإنترنت في السنغال كان غير قانوني، ومنعت المحكمة العليا في كينيا الحكومة من فعل ذلك بشكل تعسفي. هذه الأحكام تؤكد أن الإنترنت أصبح أساسيا في الحياة اليومية.

إعادة الحياة للاقتصاد الرقمي

لم يعد الاقتصاد الرقمي في إفريقيا طموحا بعيدا، بل سمة مميزة للحاضر. إن تعطيله، ولو لفترة وجيزة، يُعد ضررا اقتصاديا ذاتيا.

مع تحول التجارة الرقمية والخدمات عبر الإنترنت والمدفوعات عبر الهاتف المحمول إلى ركائز أساسية للنشاط الاقتصادي في جميع أنحاء القارة، يجب اعتبار حماية الوصول إلى الإنترنت ضرورة اقتصادية إستراتيجية.

ولكي تزدهر إفريقيا في الثورة الصناعية الرابعة، يجب أن يُتعامل مع الإنترنت كخدمة أساسية لا تقل أهمية عن الماء والكهرباء، فهو عنصر لا غنى عنه للنمو الشامل، والمرونة الاقتصادية، والازدهار طويل المدى في القارة.

الأكثر قراءة