الإستراتيجية الصينية للتخفيف من وقع الرسوم الأمريكية تصطدم بجدار من الشكوك
تعول الصين على قاعدتها الاستهلاكية البالغة 1.4 مليار نسمة للتخفيف من وقع الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لكن هذه الإستراتيجية تصطدم بجدار من عدم اليقين، مع وجود ملايين الوظائف في المصانع تحت التهديد.
جعلت بكين من توسيع الاستهلاك ركنا أساسيا في أجندتها الاقتصادية هذا العام، حيث أطلقت خطة عمل من 30 نقطة تتضمن دعما ماليا للسلع المنزلية، ومساعدات مالية لرعاية الأطفال، وتحسين فرص الحصول على إجازات مدفوعة.
لكن على أرض الواقع، يضطر أصحاب الأعمال والموظفون والمهاجرون إلى شدّ الأحزمة والتقليص من النفقات، وسط مخاوف بشأن أمنهم الوظيفي ودخلهم المتقبلي. كثيرون يقولون إنهم يؤجلون المشتريات غير الأساسية، ويدخرون أكثر، تحسباً لأوقات أصعب قادمة.
قالت آني تشان، وهي موظفة مبيعات لدى شركة خزف في مقاطعة جوانجدونج، من جناحها في معرض كانتون الشهر الماضي: "لن أكون راغبة في الإنفاق إذا استمرت أمريكا في فرض الرسوم الجمركية"، مضيفة "أفضل الادخار، في حال احتجت المال إذا ساءت الأمور".
تعكس حالة التردد هذه مشكلة أعمق أمام صنّاع القرار في الصين، فإذا لم يتمكنوا من تعزيز الثقة في الوظائف والأجور، فقد لا يستطيع المستهلك الصيني تحمّل عبء انتقال الاقتصاد بعيدا عن التصدير، ما يصعّب على بكين بلوغ هدفها للنمو البالغ نحو 5% هذا العام من دون دعم حكومي أكثر قوة.
فرض ترمب رسوما جمركية بـ145% على الصادرات الصينية، وردّت بكين برسوم 125% على السلع الأمريكية، تهدد هذه النسب المرتفعة بتعطيل التجارة بشكل كبير بين أكبر اقتصادين في العالم. وقد بدأت تداعيات ذلك تظهر فعلياً، حيث شهد النشاط الصناعي في الصين الشهر الماضي أشد انكماش له منذ ديسمبر 2023.
قال جوردون جاو، الذي يدير مشروعا لصناعة المنتجات الخشبية من الخيزران في مقاطعة أنهوي، إن الطلبات الأمريكية، التي كانت تشكل ثلث إيراداته، توقفت بالكامل منذ بدء سريان الرسوم. ولمواجهة الوضع، توقف عن استبدال الموظفين المغادرين وخفّض مكافآت العاملين. وقال: "قد أضطر إلى الاستمرار في تقليص النشاط، وتسريح مزيد من العمال".
الملايين مهددون والطلب الداخلي لا يكفي
يحذر اقتصاديون من أن صدمة الرسوم قد تكون لها تداعيات واسعة. وقدرت شركة "نومورا" أنه في حال انخفضت الصادرات إلى أمريكا إلى النصف، فإن ما يصل إلى 15.8 مليون وظيفة قد تكون مهددة.
أما "جولدمان ساكس" فوضعت التقدير عند 16 مليون وظيفة معرضة للخطر، لا سيما في قطاعات تصنيع معدات الاتصالات، والملابس، والمواد الكيميائية. كما أن إلغاء الولايات المتحدة للإعفاءات الجمركية على الطرود الصغيرة، قد يؤثر سلباً في وظائف البيع بالتجزئة والخدمات اللوجستية.
رغم أن البيانات الرسمية تُظهر تراجعاً طفيفاً في معدلات البطالة الحضرية، إلا أن كثيراً من العمال يقولون إن الوضع على الأرض أسوأ بكثير.
قال لي ييفنج 29 عاما وهو مخطط إنتاج في شركة لتجهيز المعدات الطبية في شينجن، إنه قلق من فقدان وظيفته بعد أقل من عام على انضمامه إلى الشركة، مع تباطؤ الطلبات الجديدة. وتعتمد عائلته، بما في ذلك زوجته التي تم تسريحها من عملها في روضة أطفال، ووالداه المسنان اللذان يعتمدان على معاشات تقاعدية متواضعة، على راتبه البالغ 7500 يوان (1031 دولارا).
قال لي وهو أب لطفل عمره عام واحد "أحسب كل فلس ننفقه بدقة شديدة". وتنفق العائلة حاليا أقل من 3 آلاف يوان شهرياً على الضروريات مثل البقالة، وحليب الأطفال، والكهرباء، وتدخر الباقي.
وفي استطلاع أجرته بلومبرغ الشهر الماضي شمل 12 مستهلكا، حدد المستجيبون "الاستقرار في الدخل" كأولوية قصوى عند اتخاذ قرارات الإنفاق، تليها عوامل مثل الدعم الحكومي للتسوق ورعاية الأطفال، والوصول الموثوق إلى إجازات مدفوعة.
الحزب الحاكم يحدد الوظائف كأولوية
يدرك صناع القرار الضغط المتزايد على سوق العمل. ففي اجتماع مهم الشهر الماضي، وضع المكتب السياسي للحزب الشيوعي قضية "استقرار التوظيف" كأولوية. وتعهدت السلطات بتوسيع فرص التوظيف في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية والخدمات، كما أطلقت إعفاءات ضريبية، ودعماً مالياً، وبرامج تدريب لمساعدة الشركات على الاحتفاظ بالعاملين، ومساندة الفئات الضعيفة مثل الخريجين الجدد والعمال المهاجرين.
يعد الحفاظ على الوظائف ركنا أساسيا في خطة الرئيس شي جين بينج لإعادة توجيه النمو في الصين بعيداً عن الاستثمار والتصدير، نحو الاعتماد على الاستهلاك المحلي. لكن هذا التحول يثبت أنه أصعب مما هو متوقع. فلا يزال الاقتصاد يُعاني تباطؤا طويل الأمد في قطاع العقارات، وضعف في ثقة المستهلكين والشركات، إضافة إلى انكماش الأسعار.
في مؤشر جديد على هشاشة معنويات المستهلكين، تباطأ نمو مبيعات التجزئة والمطاعم خلال عطلة عيد العمال مقارنة بالعام الماضي، في حين انخفضت إيرادات شباك التذاكر السينمائية إلى النصف تقريبا، وعلى الرغم من ارتفاع عدد المسافرين خلال العطلة، إلا أن متوسط إنفاق السائح الواحد بقي أقل بـ10% مقارنة بالفترة ذاتها من 2019، قبل الجائحة.
استهلاك ضعيف وهيمنة للاستثمار
قد يمثل الابتعاد عن السياسات المعتمدة على جانب العرض تحولا كبيرا في طريقة عمل الاقتصاد الصيني. فالاستثمار يشكل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل ضعف النسبة في أمريكا، وهو رقم مرتفع بشكل غير مألوف عالميا، في المقابل، يشكل الاستهلاك في الصين 40% فقط من الناتج، مقارنة بنسبة تراوح بين 50 و 70% في الاقتصادات المتقدمة.
يرى محللون أن الإجراءات قصيرة الأجل لن تكون كافية لعكس المسار. وقال لو فنج، أستاذ الاقتصاد الفخري في كلية التنمية الوطنية بجامعة بكين، وهي من أبرز مراكز الأبحاث الرسمية في البلاد، إن تحفيز الإنفاق الاستهلاكي يتطلب شعور الناس بالأمان حيال دخلهم طويل الأجل.
وأضاف "في ظل ضعف ثقة المستهلك، يجب أن يرتفع الدخل الدائم للأسر لتقليل رغبة الناس في الادخار". وأشار إلى أن الزيادات المنتظمة والكبيرة في المعاشات التقاعدية للمزارعين وكبار السن العاطلين عن العمل في المدن، يمكن أن تدعم ثقة المستهلكين.
يعتقد لو أن صدمة الرسوم قد تشكل فرصة للصين لدفع إصلاحات طال انتظارها في آلية توزيع الدخل. إذ تسيطر الدولة على تمويل يقدر بـ45% من الناتج المحلي، يذهب معظمه إلى مبادرات قائمة على الاستثمار وجانب العرض. ويرى أن إعادة توجيه حتى 10% فقط من هذه الموارد نحو الأسر، والمعاشات، والخدمات العامة، يمكن أن يسهم في بناء شبكة أمان أقوى واقتصاد أكثر توازنا.
تشكيك في إجراء تغييرات جذرية قريباً
مع ذلك لا يزال آخرون متشككين في أن بكين ستتجه إلى تغييرات بهذا الحجم في أي وقت قريب. وقال لوجان رايت مدير أبحاث السوق الصينية لدى مجموعة "روديوم": إن الاختبار الحقيقي لجدية الصين في التحول نحو نموذج يقوده الاستهلاك يتمثل في مدى استعدادها لإصلاح النظام الضريبي، وأضاف أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب قد تجعل الإصلاح أكثر صعوبة عبر تقليص إيرادات التجارة وزيادة الضغط على مالية الحكومة.
قال رايت: "الصين تحصل على الضرائب من نموذج نمو يقوده الاستثمار، ولا تجبي الضرائب على أساس الاستهلاك المحلي، أو نشاط الخدمات، أو ضريبة الدخل الفردي". وأضاف: "ما لم يتغير ذلك، فإن التحول الحقيقي نحو نمو يقوده الاستهلاك يظل غير مرجّح".