«لا تأكل ولا تشرب» .. نظرية عقارية مهددة بفقدان بريقها الاستثماري في السعودية

«لا تأكل ولا تشرب» .. نظرية عقارية مهددة بفقدان بريقها الاستثماري في السعودية

أفقدت المتابعة اليومية لمؤشرات الأسواق المالية السعودية والأمريكية، صالح بن راشد (37 عاما) الموظف في القطاع الخاص في العاصمة السعودية، توازنه مع تقلبات الأسواق ما بين صعود وهبوط، متبوع بتأثيرات أزمة الرسوم الجمركية وتصريحات الفيدرالي حول مستويات الفائدة، ليقرر بعدها الاتجاه للاستثمار في السوق العقارية كملاذ آمن.

إلا أنه فضل التريث لاقتناء أرض لا يتخطى سعر مترها 1500 ريال لإيواء أسرته التي تتكون من زوجة وطفلين بعد حزمة قرارات حكومية صدرت لزيادة المعروض وكبح جماح الارتفاعات القياسية التاريخية التي شهدتها العاصمة، شملت تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء وفرض رسوم على العقارات الشاغرة غير المستغلة.

ووجه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الشهر الماضي بـ 5 إجراءات لتحقيق التوازن في القطاع العقاري، على خلفية ما تشهده مدينة الرياض من ارتفاع في أسعار الأراضي والإيجارات في السنوات الماضية.

الأراضي استثمار متجذر

الطريقة التقليدية للاستثمار، تمثلت في الاقتراض لشراء الأرض بإحدى المخططات الواقعة خارج النطاق العمراني على أمل تحقيق عوائد مجزية مستقبلًا بعد وصول الخدمات سواء البنية التحتية وتعبيد الطرق.

حظيت مخططات أراضي المنح الواقعة خارج النطاق العمراني للمدن الرئيسية في السعودية خصوصًا الشمالية منها بجاذبية استثمارية استقطبت أموال السعوديين رغم زيادة تعدد وتنوع القنوات الاستثمارية كالصناديق والصكوك وأسواق الأسهم ومنصات التمويل الجماعي واستثمارات رأس المال الجرئ والمشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة.

لكن لطالما شهدت منصات التواصل الاجتماعي نشاطا للوسطاء العقاريين لاستقطاب المستثمرين الراغبين في الشراء بمخططات أطراف المدن الرئيسية التي توصف ب"المضاربية"، نظرًا لسرعة تقلبات أسعارها المتأثرة بحركة العرض والطلب الشبيهة بأسواق الأسهم.

وتضمنت توجيهات ولي العهد رفع الإيقاف عن التصرف بالبيع والشراء والتقسيم والتجزئة، وإصدار رخص البناء واعتماد المخططات للأرض الواقعة شمال مدينة الرياض بحيث يبلغ إجمالي مساحة ما تم رفع الإيقاف عنه 81.48 كيلو مترًا مربعًا.

ابن خلدون وتحوط الأراضي

استهل ابن خلدون إحدى فصول مقدمة كتابه بمقولة يرددها العقاريون رغم مرور 800 عام على كتابه فحواها "أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانًا من الربع الجنوبي"، مفصلًا مسبباته بأخبار ومشاهدات متواترة عن بدء علم الجغرافيا وعلوم الفلك ودورة الشمس وخطوط الاستواء.

تطرقت فصول عبدالرحمن ابن خلدون إلى أراضي الخلاء القفار والبحار وشتى الأمم والأمصار إلا أن مقولته باتت مفردة تسويقية لاتجاه النمو العمراني غالبًا نحو الأطراف الواقعة شمالًا، في توافق مع أبرز عناوين أديب السودان الطيب صالح لروايته "موسم الهجرة إلى الشمال".

ويلجأ المستثمرون في السعودية إلى شراء الأراضي كأداة تحوط وتنمية للمدخرات وتحقيق عوائد مجزية لا سيما وأنها خلاف الأسهم لا تتطلب تفرغًا لمتابعة دعوم ومقاومات التحليل الفني والشموع اليابانية أو تتبع آراء خبراء والمحليين وتوصيات بيوت الخبرة ومتابعة أسواق النفط والذهب ومؤتمرات الفيدرالي.

وتضمنت الإجراءات التي وجه بها ولي العهد قيام الهيئة الملكية لمدينة الرياض بالعمل على توفير أراضٍ سكنية مخططة ومطورة للمواطنين بعدد ما بين 10 إلى 40 ألف قطعة سنوياً خلال الخمس سنوات القادمة حسب العرض والطلب، وبأسعار لا تتجاوز 1500 ريال للمتر المربع، وذلك للمواطنين المتزوجين أو من تتجاوز أعمارهم 25 سنة، وذلك بشرط عدم وجود سابق ملكية عقارية أخرى للمتقدم.

"لا تأكل ولا تشرب".. نظرية مهددة

كل ما يتطلبه الأمر الشراء وانتظار طرح مناقصات دخول الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه أو الإعلان عن مشاريع حكومية كبرى بجوارها، ومن ثم البيع بأرباح مجزية قد تكون مضاعفة وبمخاطر أقل عن أسواق المال شديدة التأثر بتقلبات الاقتصاد العالمي والتضخم والركود وأسعار الفائدة وتأثير الصراعات الجيوسياسية.

وهنا يتوقع اقتصاديون في حديهم لـ "الاقتصادية" أن تشهد سوق الأراضي والعقارات في السعودية توازنا في الفترة المقبلة مع توجه الدولة للتدخل بعدة قرارات، وهو ما قد يسهم في عودة السيولة إلى أسواق الأسهم مرة أخرى.

ويرجح سعد آل ثقفان متحدث جمعية الاقتصاد السعودية انخفاضًا محدودًا في الطلب يقابله ارتفاع محدوداً ايضاً في العرض خلال الفترة القصيرة القادمة، مضيفًا أن الفترة المتوسطة إلى الطويلة أتوقع أن يكون هناك توازن و أن يكون هناك هدوء في الأسعار ونمو طبيعي .

ويرى آل ثقفان أن جاذبية الاستثمار في الأراضي قد تنخفض في الفترة القصيرة بسبب أن لدى المستثمرين توقعات بانخفاض الأسعار ولكن قد يكون هناك رغبة لديهم بعد انخفاضها إلى مستويات مقبولة.

وحول توجه السيولة النقدية للأفراد إلى أوعية استثمارية أخرى غير العقار يضيف قد يكون هناك توجيه جزء منها إلى أسواق المال والذي يعتبر جاذبًا مع وجوده في أسعار متدنية ومكررات مقبولة وتوزيعات نقدية جيدة مع توقعات جيدة للاقتصاد المحلي و أرباح الشركات.

تحرير الأراضي لتحفيز استخدامها

خبير السياسات الاقتصادية أحمد الشهري يتوقع أن تفقد المقولة التقليدية "الأرض لا تأكل ولا تشرب" بريقها في ظل الواقع الجديد، إذ أصبحت تكلفة الاحتفاظ بالأراضي غير المطورة مرتفعة نتيجة السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تحرير هذه الأراضي وتحفيز استخدامها لتلبية احتياجات القطاعين العائلي والتجاري من المساكن.

ويضيف أن هذا الواقع الجديد قد يدفع بعض المستثمرين إلى البحث عن بدائل استثمارية أكثر مرونة، مثل الاستثمارات المباشرة أو سوق الأسهم.

ويرى الشهري أنه رغم ذلك، ستظل مخططات أطراف المدن خيارًا جذابًا، مع تركيز أكبر على المشاريع طويلة الأجل بدلاً من المضاربة، ومع تدفق جزء من السيولة نحو الأسواق المالية، سيبقى القطاع العقاري الخيار الأكثر تفضيلًا للأفراد نظرًا لطبيعته الملموسة واستقراره النسبي.

أما الأسواق المالية بما فيها الأسهم وصناديق الاستثمار، يقول خبير السياسات الاقتصادية أنها قد تجذب جزءًا من السيولة بسبب سهولة الوصول إليها وعوائدها المنتظمة، إلا أنها لا تزال أقل جاذبية للمستثمرين التقليديين، خصوصًا كبار السن والورثة، الذين يفضلون الأصول الملموسة مثل العقارات.

قطاع المقاولات المستفيد الأكبر

الشهري أضاف أنه يتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى انخفاض تدريجي في أسعار الأراضي بأطراف المدن، مما يقلل من جاذبيتها للمضاربات قصيرة الأجل ويعزز الاستثمار طويل الأجل في مشاريع التطوير العقاري وذلك بالتزامن مع الدعم الحكومي للبنية التحتية والتخطيط العمراني.

وأوضح أن تحمل فترات طويلة من الانتظار لن يكون مجديًا للمضاربين، خصوصًا في حال زيادة المعروض بوتيرة سريعة.

أضاف الشهري أن القرارات الأخيرة جاءت في توقيت حاسم لإيقاف ارتفاع الأسعار المتسارع، مضيفًا أنه لا يُستبعد أن تتجه الحكومة لمعالجة قطاع المقاولات وتنظيمه ومتابعة نموه وتطوير لوائحه فالتوسع في استثمارات قطاع المقاولات يُعد ضرورة أساسية، إذ إن زيادة المعروض العقاري يتطلب وجود قطاع مقاولات قوي يستوعب الطلب المتزايد ويضمن تنفيذ المشاريع بكفاءة.

وتسعى السعودية من القرارات الحكومية الأخيرة، إلى تحقيق أهداف إستراتيجية تهدف إلى زيادة المعروض العقاري للمواطنين بعد الارتفاعات الكبيرة في الأسعار، كسر الاحتكار، وتقليل المضاربات غير المنضبطة، مما يسهم في تعزيز التوازن داخل السوق العقارية.

الأكثر قراءة