السياحة المفرطة في أوروبا .. انتعاش الاقتصاد مقابل امتعاض السكان

السياحة المفرطة في أوروبا .. انتعاش الاقتصاد مقابل امتعاض السكان

لم يشفع الانتعاش الذي توفره السياحة للاقتصادات الأوروبية في منع الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في المدن الكبرى والوجهات المفضلة ضد "السياحة المفرطة" وهي كلمة جديدة أضيفت عام 2018 إلى قاموس أوكسفورد، وتعني اتجاه عدد كبير من الأشخاص نحو أماكن شهيرة، ما يؤثر بحدة وسلبية في جودة حياة المواطنين المقيمين فيها.

تتحدث أرقام منظمة السياحة العالمية عن عودة الحركة السياحية العالمية %97 إلى مستوى ما قبل جائحة كورونا، فخلال الربع الأول من 2024 سافر أكثر من 285 مليون سائح دوليا، ما يمثل زيادة قدرها %20 عن نفس الفترة من العام الماضي.

واستطاعت القارة الأوروبية تسجيل أعلى معدل استقبال للسياح، بـ54 % من إجمالي الحركة السياحية في عام 2023، محققة بذلك عوائد بنحو 660 مليار دولار من إجمالي إيرادات الساحة الدولية التي وصلت إلى 1.5 تريليون دولار.

تصدرت فرنسا القائمة بعد استقبالها 100 مليون سائح، واحتلت إسبانيا المركز الثاني بنحو 85.2 ميلون سائح، مكنتها من تحصيل إيرادات بلغت قيمتها 92 مليار دولار. وجاءت إيطاليا في المركز الرابع بأكثر 57 مليون سائح، بعد الولايات المتحدة التي احتلت المرتبة الثالثة، بعد استقطابها 66.5 مليون سائح، بوأها الصدارة من حيث الإيرادات بتحقيقها 175.9 مليار دولار.

أرقام جيدة بالنسبة للدولة والاقتصاد والنمو وفرص العمل، لكنها مطلقا ليست كذلك لشرائح اجتماعية واسعة في هذه الدول، فأحدث استبيان لموقع "سياحة ريفيو" (tourism Review)، في 15 يوليوز الماضي، يسجل امتعاض الأغلبية الساحقة من تداعيات السياحة المفرطة؛ فرنسا (%92) وإسبانيا (%67) وإيطاليا (%70).

حولت السياحة المفرطة (Overtourism)، القطاع السياحي من ركيزة اقتصادية تنافسية تزخر بالفرص الواعدة إلى عبء يرهق كاهل المواطنين، في عدد من المدن الأوروبية، ما أخرج هؤلاء للاحتجاج والتظاهر، هذا الصيف، في أكثر من مدينة بإسبانيا.

فشهدت برشلونة، مطلع الشهر الماضي، مظاهرة تحت شعار "كفى! لنضع قيودا على السياحة" ضد السياحة المفرطة في الإقليم، الذي بات ثاني أكثر الوجهات السياحية شعبية في العالم، إذ تعدى زواره 18 مليون سائح العام الماضي.

انتفضت جرز الكناري بدورها لنفس السبب، وبشعارات حادة مثل: "رفاهيتكم تعني بؤسنا" و"السكان مهددون بالفناء".. بعدما استقبل الأرخبيل الواقع في عرض المحيط الأطلسي، بساكنة تقدر بنحو 2.2 مليون نسمة، أزيد من 16 مليون زائر، أي ما يعادل عدد السكان سبع مرات.

عدوى الاحتجاج انتقلت إلى عواصم أوروبية أخرى (لشبونة وبراغ وأمستردام...)، وإن كان الأمر أقل حدة خلافا للوضع في إسبانيا، ما أعاد إلى الواجهة أسئلة حول سبل مواجهة واجهة النشاط السياحي الجائر، أي كيفية تحويل السياحة من مجرد حساب لأعداد الزوار إلى تركيز على معدلات الإنفاق.

هكذا تخطط فالنسيا لفرض رسوم ليلية تصل إلى 4 يورو على كل سائح يقضي الليلة بها، تعرف باسم "ضريبة السياحة المستدامة"، على غرار ما يجري العمل به في جرز البليار. فكرة جيدة، بالنسبة لعمدة مدينة طليطلة، التي تستقبل يوميا حافلات تقل المئات من السياح للزيارة دون الإقامة، ما يحولهم إلى عبء تتحمله المدينة بلا مقابل.

كانت البندقية في إيطاليا سباقة إلى هذا الإجراء، بعدما صارت أول مدينة في العالم فرضت، بدءا من أبريل الماضي، على السياح النهاريين في فصلي الربيع والصيف، ما بين 8 صباحا و4 عصرا، دون مبيت ليلي، دفع ضريبة قدرها 5 يورو، مع إبراز بطاقة دخول على شكل رمز رقمي سريع الاستجابة، للحد من تدفق السياح عليها.

اختارت مدن أخرى حلولا، قد تبدو لكثيرين راديكالية، حيث لجأت مدينة بروج؛ المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، بدءا من 2019 إلى اعتماد إستراتيجية السماح بزيارة واحدة خلال خمس سنوات، تشجيعا للسياحة النوعية.

وفضل المسؤولون في مدينة "ماتشو بيتشو" في بيرو، وفي مسار "يوشيدا" بجبل فوجي بمنطقة باليابان اعتماد نظام الحجز المسبق، فالتذاكر تخول دخول السياح مرة واحدة لفترة محددة، ما يسمح بتفادي الزحام الشديد في هذه الأماكن.

لقد تحولت السياحة في أعين ساكني هذه المدن من نعمة تجلب الرخاء إلى نقمة تهدد معاشهم اليومي، بنقص في الوحدات السكنية وارتفاع في الأسعار وازدحام مروري وضوضاء وهدر للموارد المائية... وغير ذلك مما يهدد بعطيل حياتهم في هذه الأماكن مستقبلا.

 

الأكثر قراءة