Author

الغيوم تواصل تجمعها

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الهشاشة والصراعات والديون من أخطر التحديات على المدى القصير"
أجاي بانجا، رئيس البنك الدولي
تتفق معظم الجهات الدولية المعنية بالحراك الاقتصادي والاجتماعي العالمي، على استمرار المصاعب في العام الجديد، بل والمرحلة المقبلة. هذا ليس جديدا في عالم يعج بالمشكلات والاضطرابات، التي أسهمت في زيادة مساحة اليقين الغائب عن الساحة. فلا يمكن لأي حراك من هذا النوع، أن يحقق أي قفزات نوعية، في ظل أمواج متلاطمة، بفعل مؤثرات يبدو أنها ستظل حاضرة على الساحة فترات طويلة. بل يمكن القول إنها تبدو مستمرة طوال العقد الحالي، إلا إذا تمت تحولات جذرية، ليس في الإمكانات الاقتصادية فحسب، بل على صعيد الإدارة السياسية، والانفراج الذي يحتاج إليه العالم اليوم. الغيوم تملأ الفضاء العالمي، ولا يوجد مؤشر واحد إلى أنها ستنجلي، بفعل تفاقم الأزمات، وبروز أخرى مرشحة لأن تكون قوية في المستقبل القريب. بمعنى آخر، أن "البؤر" الخلافية الباردة، يمكن أن تتحول إلى "ساخنة" في أي لحظة.
الجميع يشكو الصراعات، لكن الأطراف المعنية مباشرة بها لا تقوم بما يضمن إيقافها، أو حتى خفضها على الأقل. هذه الصراعات ليست وليدة العقد الحالي من الزمن، بل كانت موجودة منذ عقود، تمكنت القيادات السياسية حول العالم في فترات متقطعة من تخفيف ضرباتها، والتحرك نحو مزيد من التفاهمات. إلا أن الأمور تفاقمت أكثر في منتصف العقد الماضي، حين شهد خلافات متأججة حتى بين الدول المتحالفة نفسها! بل نشبت معارك تجارية بين الشركاء أنفسهم، مثل تلك التي حدثت بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالصراعات الجيوسياسية المتفاقمة لم تكن في الواقع السبب الوحيد للإضرابات التي يمر بها العالم، بل تحولات في سياسات الحكومات المتعاقبة هنا وهناك، ولا سيما التحول الصارخ في عهد الرئيس الأمريكي السباق دونالد ترمب.
الآن، يمكن وصف الحالة بأنها أكثر سوءا، بفعل مجموعة من العوامل التي تفاقمت منذ مطلع العقد الحالي. الحرب الدائرة في أوكرانيا التي يبدو أنها بلا نهاية قريبة، والموجات التضخمية التي انفجرت في العالمين الماضيين، والسياسات المالية المتشددة التي اضطرت البنوك المركزية الرئيسة إلى اتباعها لمواجهة التضخم، وتصاعد الصراعات الجيوسياسية بصورة مقلقة جدا، فضلا عن المواجهة الراهنة في الشرق الأوسط، التي أخذت على الفور البعد العالمي لها، والآثار المعيشية والاقتصادية الخطيرة التي لا تزال جائحة كورونا تتركها في الميدان. كل هذه تحديات تواجه العالم في العام الجديد وفي الأعوام التي ستليها. فالعالم يشهد هشاشة اقتصادية لم تحدث منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008، وخلفت آثارا لا تزال ماثلة على الأرض بصورة أو بأخرى.
من هنا، يمكن النظر إلى تحذيرات رئيس البنك الدولي آجاي بانجا، من مصاعب 2024، التي لم تخرج عن مجال الصراعات الحالية الجيوسياسية وغيرها، كما أنها تدخل مباشرة في صلب الهشاشة التي يمر بها العالم من الناحية الاقتصادية. ويبرز منذ أول العقد الحالي عامل خطير مهم بات يتصدر المشهد العام تقريبا، وهي عبء الديون السيادية الماضية في الارتفاع سواء في الدول المتقدمة أو الناشئة والفقيرة. مشكلة الديون لا تنحصر بالضغوط في مجال تسديدها فقط، بل تسهم مباشرة وبقوة في إضعاف قدرة الحكومات المدينة، خصوصا في الأسواق الناشئة، على الإنفاق في مجالات حيوية جدا، مثل الصحة والتعليم والتنمية في قطاعات تمس مواطنيها مباشرة، مثل الخدمات والبنى التحية وغيرها.
الذي يرفع من تأثيرات الديون السلبية، أن تكاليفها تزداد باستمرار، وبلغت حدودا عالية جدا في العامين الماضيين، عندما قامت البنوك المركزية الرئيسة برفع الفائدة في سياق مواجهتها لاستحقاقات التضخم. فأغلبية الديون التي تكبل الدول الناشئة والفقيرة مقومة بالدولار أساسا، الأمر الذي زاد من التكاليف، وبالتالي أنقص الإنفاق في هذا البلد أو ذاك. لكن في النهاية المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العالمي ليس مشرقا بالطبع، والعوامل السلبية التي تسهم مباشرة في نشر الأزمات وتفاقم الخلافات والصراعات، لن تخبو في المدى المتوسط على الأقل، ما يجعل الفترة المقبلة مليئة بالتحديات بل والتهديدات أيضا. مع ضرورة الإشارة إلى الأمر المهم أيضا، وهو غياب الإرادة السياسية لتخفيف حدة الغيوم التي تتشكل دون التوقف.
العام الجديد الذي "ورث" أزمات العام الماضي، سيواصل "توريث" أزماته للأعوام المقبلة، ولا غرابة لو تواصلت المشكلات بأشكالها الراهنة حتى نهاية العقد الحالي. إلا إذا حدث الانفراج الذي يحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى. لكن لا مؤشرات على مثل هذا الانفراج في الأعوام المقبلة، ولا سيما في ظل تفاقم العلاقات الدولية، بما في ذلك تلك التي تجمع الدول التي تؤثر في صنع القرار العالمي. وإذا كان الهدف الآن هو التركيز على التعافي الاقتصادي، الذي يبدو أيضا أنها سيتواصل لأعوام، فيجب على كل الأطراف أن تسهم فيه رغم كل الخلافات الموجودة، لسبب واحد فقط، وهو أن الجميع يعاني، بمن فيهم الدول المتقدمة القادرة على مواجهة المشكلات العميقة والطارئة.

إنشرها