تهديدات اقتصادية باردة وساخنة
لا يمكن للاقتصاد العالمي أن يستقر بصورة مقبولة، إذا ما استمرت الصراعات الجيوسياسية الراهنة التي استعرت خلال الأعوام القليلة الماضية. فـ"العولمة" التي صبغت العالم على مدى أكثر من عقدين من الزمن، حققت قفزات مهمة من منطلق اقتصادي، لكنها ومنذ أعوام قليلة تحولت إلى مفهوم سياسي أكثر منه اقتصادي، ما يؤكد حقيقة أن الصراعات الراهنة سواء الباردة منها أم الساخنة، تواصل تهديداتها لاستقرار الاقتصاد العالمي من كل الزوايا، ولا سيما من الناحية التجارية، ومن جهة سلاسل التوريد التي إن تحسنت بعض الشيء في العام الماضي، إلا أنها لا تزال مضطربة ولم تصل بعد إلى شكل من أشكال الاستدامة. وهذا ما يزيد المخاوف على الساحة الدولية، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا التي تشكل في حد ذاتها خطرا ليس على القارة الأوروبية فحسب، بل العالم أيضا. فهي الحرب الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية.
وما توصل إليه برونو لومير وزير الاقتصاد الفرنسي، بأن الخطر الاقتصادي الأول في العالم جيوسياسي، لا شك أنه صحيح، ولا سيما في ظل تصاعدات المواجهات، مع خطر التحول إلى صراعات يمكن توصيفها بـ"باردة" إلى "ساخنة" في لحظة. فالمواجهات العسكرية تجري هنا وهناك، وبعد عامين تقريبا من اندلاع الحرب في أوكرانيا، اندلعت الحرب الراهنة في الشرق الأوسط، التي لم ولن تكون محصورة في المنطقة، نظرا لروابطها السياسية والاقتصادية المباشرة على الساحة الدولية. فبفعل هذه الحرب رفعت ميليشيات الحوثي من تهديداتها للملاحة العالمية عبر البحر الأحمر، ما أدى إلى تراجع حركة التجارة عبر هذا الممر البحري بأكثر من 20 في المائة، وهي قابلة للتراجع إذا ما استمرت التهديدات الإرهابية.
ماذا يعني ذلك؟ يعني مزيدا من الأخطار على سلاسل التوريد التي لم تتعاف بما يكفي بعد، كما يعني أن التوتر يمكن أن يتوسع ليشمل مساحات أوسع، وهذا ما لا يمكن أن يتحمله العالم، الذي لا يزال يمر أصلا بأزمة اقتصادية اندلعت في 2020 واستفحلت بصورة كبيرة في العامين الماضيين. والصراعات الجيوسياسية لا يمكن أن تنتهي بسهولة، وهذا يعني أن الاستقرار العالمي المنشود لن يظهر على الساحة قريبا، إلا إذا كان هناك اتفاق دولي حقيقي يأخذ في الحسبان المصلحة العالمية كلها. فالتوترات مستفحلة حتى في هونج كونج وإن كانت بصورة هادئة، فضلا عن الحادث الخطير الأخير الذي وقع في تايوان، مع استمرار الخلافات حول هذه الجزيرة بين الصين والولايات المتحدة، أكبر اقتصادين في العالم.
كل هذا وغيره من الأسباب السلبية، ستؤدي حتما إلى تراجع نمو التجارة العالمية، في وقت تتطلب فيه المرحلة مستويات من النمو قوية. ورغم الهدوء المتواضع للمواجهات السياسية بين واشنطن وبكين، إلا أن الخلافات الأساسية لا تزال تؤثر في المشهد الاقتصادي العالمي كله. فقط توقعت مجموعة بوسطن الاستشارية، أن يواصل نمو التجارة العالمية انخفاضه على مدى عشرة أعوام، وهذا يعني أن الوضع الاقتصادي العام لن يتعافى بالشكل المأمول. وهذا يتماشى في الواقع مع التوقعات الأخيرة للأمم المتحدة حول النمو العالمي، التي جاءت متشائمة، أو قاتمة في أحسن الأحوال.
من هنا، لا يبدو المشهد الدولي ناصعا أو مشرقا، في ظل تفاقم الصراعات المختلفة، وفي مقدمتها الجيوسياسية. ولا حل إلا بالتفاهم بين القوى المؤثرة، من أجل الوصول إلى أفضل مستوى للاقتصاد العالمي الذي يعاني أساسا أزمات مختلفة، بما فيها الموجة التضخمية التي تضغط حتى اليوم، ويعاني في مساره نحو التعافي الذي يبدو بعيدا.