الاقتصاد البيئي .. هل أصبح واقعا؟

منذ اتفاقية باريس للمناخ 2015، انتشرت مفاهيم جديدة مثل الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق وحظيت باهتمام كبير، لأنها تمثل نهجا مبتكرا للتنمية المستدامة وإدارة الموارد، وهذا النوع من الاقتصاد الملون -إذا جاز التعبير- يهتم بالأدوات المالية والقرارات الاقتصادية التي تعمل للحفاظ على الموارد الطبيعية واستخدامها المستدام مع تعزيز النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية، فلقد ثبت خلال العقود الماضية أن الاقتصاد الذي لا يأخذ في الحسبان قضايا تغير المناخ، والتلوث، وفقدان الموارد الطبيعية، وعدم المساواة الاجتماعية، والتفاوت في الدخل، والمجاعة، والأزمات المالية، يعد اقتصادا غير مستدام كثير الأزمات.
ولمعالجة هذه الأسباب أطلقت الأمم المتحدة خطة مكونة من 17 هدفا للتنمية المستدامة، تهدف إلى صنع عالم أكثر استدامة ومساواة للسكان والبيئة أيضا. يأتي مصطلح الاقتصاد الأخضر الذي تمت صياغته لأول مرة في 1989 في تقرير بتكليف من مجموعة من خبراء الاقتصاد البيئي لمصلحة حكومة المملكة المتحدة على أساس أنه نهج للنمو الاقتصادي يركز على الاستخدام الفاعل للموارد، والحد من التلوث، وتقليل الآثار البيئية، ثم تمت إضافة قضايا أخرى مثل التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون، وفي هذا النوع من الاقتصاد يكون نمو العمالة والدخل مدفوعا بالاستثمار العام والخاص في مثل هذه الأنشطة الاقتصادية والبنية التحتية والأصول التي تسمح بتقليل انبعاثات الكربون والتلوث وتعزيز كفاءة الطاقة والموارد ومنع فقدان التنوع البيولوجي والنظام البيئي، كما أنه يعزز الاستثمار في البحث والتطوير لإنشاء تقنيات جديدة تقلل من التأثيرات البيئية وتعزز التنمية المستدامة. وفي السياق نفسه، نبع مفهوم "الاقتصاد الأزرق" أو "اقتصاد المحيطات" من فكرة الربط بين مفهومي الحفاظ على البيئة والاستدامة، ولكن فيما يتعلق بالمحيط والكائنات البحرية التي تعيش فيه، وظهر هذا المصطلح لأول مرة في 2012 في مؤتمر للأمم المتحدة حول التنمية المستدامة في البرازيل، ووفقا لليونسكو، فإن مفهوم الاقتصاد الأزرق "يسعى إلى تعزيز النمو الاقتصادي، والاندماج الاجتماعي، والحفاظ على سبل العيش أو تحسينها، مع ضمان الاستدامة البيئية للمحيطات والمناطق الساحلية في الوقت نفسه، فهو يعنى أساسا باستدامة المحيطات وأي مسطح مائي رئيس، لأنها مصدر للغذاء البشري والحيواني.
وتعزيزا لهذا الاتجاه من الاهتمام بالاقتصاد البيئي بشكل مجمل، ظهر عديد من الأوراق المالية ذات الصلة، ومن ذلك الصكوك والسندات الخضراء، وكذلك الصكوك والسندات الزرقاء، وكما يشير اسمها، فإن كلا النوعين يهتم بدعم وتمويل الأنشطة والمشاريع الاقتصادية ذات العلاقة بالبيئة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة واتفاق باريس للمناخ. فالسندات الخضراء والزرقاء بشكل عام تعد من أدوات الدين، التي تهدف على وجه التحديد إلى زيادة الاستثمارات في المشاريع التي تشمل الطاقة المتجددة والمستدامة، والنقل النظيف، والتكيف مع تغير المناخ، والإدارة المستدامة للنفايات وغيرها، كما تسعى إلى تشجيع المستثمرين على تحويل استثماراتهم من المحافظ كثيفة الكربون إلى المشاريع الخضراء والمستدامة، والمشاريع التي تقود إلى تحسين رفاهية الإنسان والعدالة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه، تحد بشكل كبير من الأخطار البيئية والندرة البيئية واستنزافها، كما أنها تعزز الاستثمار في البحث والتطوير لإنشاء تقنيات جديدة تقلل من التأثيرات البيئية وتعزز التنمية المستدامة، وإذا كانت السندات الخضراء تعطي انطباعا بأن المشاريع التي يتم تمويلها تكون في البر واليابسة، فإن السندات الزرقاء تركز على المشاريع في البيئة البحرية والساحلية وإدارة النفايات البلاستيكية، وتحسين الوصول إلى المياه العذبة وتعزيز استدامة التنوع البيولوجي البحري في المحيطات والبحار وجميع الموارد البحرية، وتقليل تسرب الكيماويات الزراعية والصرف الصحي في المياه.
وتشير التقديرات إلى أن هناك حاجة إلى نحو 175 مليار دولار سنويا للحفاظ على محيطات العالم، ومع ذلك، تتم المساهمة بمبلغ 25 مليار دولار فقط سنويا، ما يؤدي إلى فجوة في التمويل. وفي بداية عام 2023، كانت السندات الزرقاء تمثل أقل من 0.5 في المائة من سوق الديون المستدامة العالمية، ولأهمية هذا النوع من أدوات التمويل وعلى هذا الصعيد فقد نشرت "الاقتصادية" تقريرا متكاملا لرصد ذلك، يؤكد أن هذه السوق لم تزل صغيرة نسبيا، حيث بلغ إجمالي إصدارات السندات الزرقاء في خمسة أعوام 6.48 مليار دولار، وأول إصدار جاء في 2018 عن طريق شركة يابانية بقيمة 45 مليون دولار، ومع ذلك فقد حققت نموا في حجم الإصدارات بنحو 1200 في المائة على أساس سنوي، لتبلغ 3.9 مليار دولار في 2023 مقارنة بنحو 300 مليون دولار في 2022، ومما يلفت الانتباه أن الرصد الذي أعدته وحدة التقارير في صحيفة "الاقتصادية" يشير إلى عدم وجود أي إصدار من السندات الزرقاء من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولعل أحد الأسباب هو أن السندات الزرقاء لم تزل تفتقر إلى تعريفات ومقاييس موحدة يمكن للمصدرين والمستثمرين الاعتماد عليها.
ومع ذلك فإن الاتجاه العام يشير إلى أن هذا النوع من الاستثمارات سيحقق قفزات كبيرة في المستقبل القريب، حيث بدأت وكالتا "فيتش" و"موديز" تقديم تصنيفات خاصة بالاستدامة من أجل المساعدة على عكس تأثير أخطار المناخ في التصنيفات، وتؤكد وكالة "ستاندرد آند بورز"، أنها ضمنت عوامل الائتمان المتعلقة بمعايير الاستدامة، مثل أخطار التحول المناخي، واستجابة لهذه التصنيفات الحديثة فقد بدأت جهات الإصدار نشر إطار التمويل الأخضر الخاص بها، الذي يوضح بالتفصيل أنواع المشاريع، التي تنوي تمويلها، بما في ذلك إدخال مزيد من وسائل النقل العام عديمة الانبعاثات، وتركيب التقنيات الحرارية المتجددة، وتعزيز التنوع البيولوجي، وذلك لتحقيق أهدافها المتمثلة في خفض انبعاثات الكربون.
الاقتصاد البيئي أصبح واقعا، والتمويل الموجه نحو المشاريع التي تخدمه تتزايد بشكل لافت، وقد لا ينتهي العقد الحالي إلا وقد أصبحت هذه الأوراق جزءا رئيسا من أي محفظة قروض، والتأخر في تطوير التشريعات والمؤشرات الخاصة بذلك من قبل الجهات الرقابية قد يؤدي إلى سوء استغلال هذا النمو المتسارع في هذه الأسواق، خاصة مع تزايد الإصدارات التي تستخدم مصطلح الاستدامة مثل قروض الاستدامة الإسلامية التي ألمح لها التقرير، كما أن تأخر الشركات في استخدام هذا النوع من التمويل قد يعرضها لمشكلات تتعلق بالتصنيفات الائتمانية. لهذا لا بد من مواجهة هذه التحديات وتضمين خطط التمويل والاقتراض لهذا النوع من التمويل وتعزيز الشفافية بشأن استخدامات هذه الأموال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي