الأموال الرخيصة ومعايير الإقراض

شكلت قضية الإفلاس خلال 2023 مشهدا صعبا في كثير من دول العالم خاصة بين شركات في قطاعات مختلفة، وقد تكون مهمة في الحركة المالية والاقتصادية والتجارية، فقد أظهرت بيانات نشرت أخيرا أن طلبات الإفلاس ارتفعت 18 في المائة خلال 2023 في الولايات المتحدة على خلفية ارتفاع أسعار الفائدة، ومعايير الإقراض الأكثر صرامة، وجاء في عدة تقارير أن طلبات إعادة تنظيم الأعمال بموجب الفصل الـ11 التجاري ارتفعت 72 في المائة إلى 6569 من 3819 العام الماضي، ومن المتوقع أن تستمر أعداد قضايا الإفلاس في الارتفاع خلال 2024، والبعض يرى أن تزايد عدد حالات الإفلاس يعود إلى أن فقاعة المال الرخيص قد انفجرت بالفعل، ما أجبر الشركات الناشئة التي كانت تحرق الأموال على تصحيح أوضاعها أو الإفلاس، وبالنسبة إلى المستهلكين، فإن كثيرا من الناس الذين تعودوا على أسعار فائدة منخفضة على قروضهم العقارية التي مدتها 30 عاما، أصبح عليهم اليوم تكييف حياتهم وميزانياتهم مع أسعار فائدة تزيد على المثلين. 
فالمال الرخيص يشير إلى تكلفة الاقتراض المنخفضة عندما يخفض البنك المركزي أسعار الفائدة، حيث يسهل الوصول إلى الأموال بمحرد توقيع بعض الأوراق، ودونما تفكير كبير وحسابات معقده بشأن تكلفة هذه الأموال، وعلى الرغم من أن هذه الأموال الرخيصة تعزز من الاستثمارات، وتشجع المستثمرين على تحمل مزيد من الديون لشراء الأصول، كما يمكن أن تحفز النمو الاقتصادي من خلال تسهيل الاقتراض والإنفاق أمام المستهلكين، إلا أن ذلك يؤدي إلى فقاعة في الأسعار، ويرى البعض أن وجود الأموال الرخيصة في أي اقتصاد يمكن أن يشجع على الاقتراض المفرط ويؤدي إلى عدم استقرار المال. 
وعلى الزاوية أو النقطة، هناك اليوم نقاش حول ما إذا كان عصر الأموال الرخيصة يمر بتوقف مؤقت أم أنه سينتهي إلى الأبد، فمن يرى بأن القوى الديموغرافية ستعني ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة على المدى الطويل، وهذا يعني أن زمن الأموال الرخيصة قد ولى ولن يعود، وفي مقابل ذلك، هنا من يرى بأن القوى التي ولدت أسعار فائدة حقيقية منخفضة على الأصول الآمنة ستستمر في الهيمنة، بمجرد انتهاء الصدمة التضخمية الحالية، ليس واضحا حتى الآن على الأقل أي المسارين هو الصحيح.
 في هذا السياق، نشرت "الاقتصادية" تقريرا يشير إلى أدلة في كلا الاتجاهين، فالمستثمرون مقتنعون بأن البنوك المركزية الكبرى ستخفض أسعار الفائدة، ولهذا ارتفعت الأسهم العالمية مع قرب نهاية 2023 في ظل تفاؤل المستثمرين على نطاق واسع بشأن احتمالات تغيير السياسات النقدية في وقت مبكر من العام الجديد، فصعد مؤشر "إم إس سي آي" للأسهم العالمية بنسبة 4.5 في المائة منذ بداية ديسمبر، وزاد مؤشر "إم إس سي آي" الأوسع نطاقا لأسهم آسيا والمحيط الهادئ باستثناء اليابان، بأكثر من 1 في المائة، ليصل إلى أعلى مستوى له في أكثر من أربعة أشهر، كما انخفضت عائدات السندات الحكومية الأمريكية، حيث تراجع العائد على سندات الخزانة القياسية لأجل عشرة أعوام بأكثر قليلا من ست نقاط أساس إلى 3.840 في المائة، وهو أدنى مستوى منذ يوليو، وهبط العائد على سندات الخزانة لأجل عامين بنحو نقطتي أساس إلى 4.267 في المائة، وتراجع العائد على الديون مستحقة السداد بعد 30 عاما بمقدار ست نقاط أساس إلى 3.989 في المائة. كل ذلك يحدث بسرعة في رهان على أن الاحتياطي الفيدرالي سيخفض أسعار الفائدة أو على الأقل سيتركها دون تغيير، حيث يراهن المستثمرون على خفض أسعار الفائدة بما يصل إلى 1.5 في المائة بحلول نهاية 2024، وعند مستوى قريب من 4 في المائة، وذلك على الرغم من تحذير محافظي البنوك المركزية من الرهان على ذلك، لكن قلما تراهن الأسواق المالية على سعر فائدة دون أن تجبر البنك المركزي على الاستجابة لها، فالمستثمرون المتفائلون يضغطون على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لخفض التضخم دون التسبب في ركود، ويعزز هذا الشعور مسؤول سابق في الاحتياطي الاتحادي يرى أن الاحتياطي الفيدرالي استطاع فعلا تحقيق عمليات هبوط سلسة حتى الآن. 
وفي الاتجاه الآخر، الذي يتزعمه المديرون التنفيذيون، فإن الصورة تبدو مختلفة، فالمدخرات التي كانت كبيرة ومتوافرة في أعوام ما بعد الجائحة تنضب، وستظل السياسة النقدية تشكل عائقا أمام النمو، لأنها ستكون أعلى مما يسمى المعدل المحايد الذي لا يتوسع ولا ينكمش الاقتصاد عنده، وهذا المعدل هو سعر الفائدة قصير الأجل عندما يكون الاقتصاد عند مستوى التوظيف الكامل والتضخم مستقرا، ولا تكون فيه السياسة النقدية انكماشية ولا توسعية، وهذه الحالة لا تزال بعيدة المنال. ومما يزيد من المخاطر في 2024 استمرار تصاعد التوتر الجيوسياسي وتراجع العولمة كما أن 2024 هو عام الانتخابات في عدد من الدول، لذلك فإن الهبوط السلس ليس متوقعا بشكل مؤكد، بل هناك عديد من العقبات، كما أن أسعار الفائدة ستستمر مرتفعة بما يجعل الأصول عالية المخاطر، مثل أسهم التكنولوجيا والعملات المشفرة، أقل جاذبية لأن المستثمرين يمكنهم الحصول على عائد معقول دون الاضطرار إلى تحمل مخاطر كثيرة، وهذا سيجعل الوصول إلى الأموال صعبا ومعقدا، قد لا تتحقق الرهانات الأكثر خطورة فتنفجر فقاعات تؤدي إلى أزمات مصرفية كبيرة وكثيرة على نحو ما حدث مطلع 2023، ومن المرجح أن يضطر مزيد من أصحاب العقارات إلى إعادة تقييم محافظهم الاستثمارية والتخلي عن مبان، مع تدفق الخسائر إلى البنوك والمستثمرين كما يحدث الآن مع شركة العقارات الأوروبية المتعثرة مثل شركة سيجنا signa هي شركة عقارات أوروبية (عقارات تجارية) تعثرت مع نهاية العام وانكشفت شركات وبنوك كثيرة معها. لذلك، فإن هذا الفريق يرى أن على الشركات، وفي بعض الحالات دول بأكملها، البدء في دراسة إعادة هيكلة التزامات ديونها، لأنها قد تكون غير قادرة على تحمل دفع الفوائد أو التأقلم مع زمن لم تعد الأموال الرخيصة موجودة فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي