Author

ديون عالمية ثقيلة

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الذي يستدين بسرعة، يكون بطيئا في السداد"
من الأمثال الألمانية
الوضع على صعيد الديون العالمية لن يكون جيدا في العام الجديد، في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية عموما، ولا سيما في الدول التي ترزح تحت وطأة ديون لا تتوقف عن الارتفاع، وتعاني أيضا زيادة تكلفتها، كما أنها ليست في وضعية مريحة تمكنها من تحقيق نمو اقتصادي، يساعدها على مواجهة زخم الديون وأعبائها الراهنة والمستقبلية. و"آفة" الديون ليست حكرا بالطبع على الدول النامية أو الفقيرة، بل تشمل أيضا الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، التي تعاني هي الأخرى مستويات دين، فاقت في بعضها حجم ناتجها المحلي الإجمالي، بل بلغت في بلد كاليابان ضعف ناتجها. فالديون، بصرف النظر عن قوة المكانة الاقتصادية لهذه الدول أو تلك، تظل ضاغطة على الحراك الاقتصادي والتنموي في آن معا، كما أنها تؤثر في الإنفاق العام في قطاعات محورية.
في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، بلغ حجم الديون العالمية، وفق معهد التمويل الدولي، نحو 3.7 تريليون دولار، بارتفاع قدره عشرة تريليونات دولار عن أرقام 2022. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن حجم هذا الدين الهائل يبلغ 336 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، مرتفعا من 334 في المائة في الربع الأخير من 2022. والمثير أن الدين العالمي انخفض على مدى سبعة أرباع متتالية، قبل أن يعود إلى الارتفاع في النصف الثاني من العام المنصرم. وأعباء هذه الديون انتقلت تلقائيا إلى العام الجديد، وستنتقل بالتأكيد إلى الأعوام التي تليه، ولا سيما في ظل المصاعب الاقتصادية التي يمر بها العالم عموما، مع ضرورة الإشارة إلى تحسن الأداء بعض الشيء في الأشهر القليلة الماضية، خصوصا فيما يرتبط بخفض مستويات التضخم بنسب متفاوتة.
الأسباب متعددة لارتفاع حجم الديون العالمية، لكن الخيارات لمواجهتها ليست متوافرة بكثرة. فقد تحملت الحكومات مطلع العقد الحالي، أزمة جائحة كورونا التي ضربت العالم بصورة مفاجئة وعنيفة، فما كان عليها سوى الاقتراض لتمويل حزم الدعم التي وصلت إلى عشرة تريليونات دولار عالميا، وفق صندوق النقد الدولي. هذا التمويل لم يأت من "وفرة" مالية. فهذه الوفرة ليست موجودة أصلا، سواء في الدول المتقدمة أو الناشئة والفقيرة. بينما كانت ضغوط كورونا المعيشية والاقتصادية والاجتماعية في أوجها، بدأت مستويات التضخم في الارتفاع، حيث بلغت في أغلب الدول أعلى مستوياتها منذ عقدين على الأقل، وكان على الحكومات أيضا أن تقدم المساعدات المعيشية عبر ماذا؟ عبر الاقتراض، في حين كان النمو يتعثر بفعل سياسات التشديد النقدي التي اتبعتها البنوك المركزية لكبح جماح ارتفاع أسعار المستهلكين.
وضعية النمو المنخفض في أحسن الأحوال، زادت من أعباء خدمة الديون، ما رفع من وتيرة الاقتراض. أما أحسن الأحوال هنا فتقابلها أوضاع صعبة للغاية في نسبة كبيرة من الدول التي واجهت الركود الاقتصادي بالفعل، ما جعل المشكلات فيها أكثر عمقا. وفي العامين الماضيين تخلفت عدة دول عن السداد، بما في ذلك الأرجنتين التي تخلفت بالفعل للمرة التاسعة عن السداد في 2020. وهذا ما دفع المؤسسات الدولية ذات الصلة، إلى التحرك من أجل دفع الجهات الدائنة إلى تخفيف أعباء الديون، بل طالبت بشطبها في دول بعينها، نظرا لاستحالة قدرتها على السداد. ومع انفجار كورونا تبنت مجموعة العشرين بقيادة السعودية آنذاك قرارات بتخفيف حدة الديون، ما أسهم في تقليل الأخطار في الدول المدينة.
التخلف عن السداد ليس أمرا حديثا. فقد تخلفت الصين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وكذلك اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وألمانيا قبل هذه الحرب وبعدها. لكن كان ذلك في زمن الحرب، أما اليوم فالأمر مختلف، خصوصا في ظل تزايد وتيرة خفض التصنيفات الائتمانية لكثير من الدول، بما في ذلك دول متقدمة، رغم أنه لا توجد مخاوف من عجز هذه الأخيرة عن السداد. فهذا لن يحدث بالطبع. في هذا العام يجب على 91 دولة ضمن قائمة الدول الفقيرة، أن تستخدم أكثر من 16 في المائة من إيراداتها لتسديد جزء من ديونها، بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض، الآتي أساسا من الزيادات التاريخية لأسعار الفائدة على عملات تستخدم في مثل هذه القروض، مثل الدولار واليورو والاسترليني. وفي أحدث بيانات للبنك الدولي، فقد قفزت الديون الخارجية للدول الفقيرة والمتوسطة الدخل إلى 8.7 تريليون دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. وهذا ليس غريبا إذا ما عرفنا أن هذه الدول أنفقت في 2022 مبلغا قياسيا بلغ أكثر من 443 مليار دولار لخدمة ديونها، وليس لتسديد أصول هذه الديون.
لا توجد مؤشرات عملية تدل على أن مشكلة الدين العالمي ستهدأ في العام الجديد، ولا حتى قبل نهاية العقد الحالي. وهذا ما يهدد مسار النمو الذي بات العامل الأكثر إنقاذا للدول التي تعاني ارتفاع ديونها الخارجية. والحق، أن الحلول المتاحة قليلة، ويبدو أنه لا غنى أمام الجهات الدائنة سوى اللجوء إلى خفض نسبة من ديونها في بعض الحالات. فالمراهنة على النمو الاقتصادي ليست متاحة على الأقل في الوقت الراهن.

إنشرها