Author

أين الركود وأين توقعاتهم؟

|

أحرج عام 2023 المحللين الاقتصاديين وخبراء الدورات الاقتصادية في عدم تحقق توقعاتهم بشأن وقوع الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود، الذي يعرفه كثير من المراقبين على أنه الحالة التي تشهد تراجعا في النمو الاقتصادي في فصلين متتاليين، بينما آخرون يرون أن الركود يحدث حين يكون هناك تراجع لعدة أشهر في الإنتاج والتوظيف ودخل الأسر وغيرها من مؤثرات حقيقية ملموسة.
تطرح تساؤلات كثيرة عن سبب عدم حدوث الركود رغم وجود شبه اتفاق بين المراقبين على أن الركود الذي لم يقع في 2022 كان من المفترض أن يحدث في 2023، ولكن النتيجة أتت معاكسة لذلك تماما، فلم تتحرك نسبة البطالة بعيدا عن 3.5 في المائة، ولم يتراجع النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي عن مستوياته التاريخية في حدود 2.5 في المائة، بل إنه سجل ارتفاعات متواصلة في 2023 من 1.7 إلى 2.4 ثم إلى 2.9 في الربع الثالث من 2023. في هذا السياق، يمكننا إيراد نقطة فلسفية دقيقة تشير إلى أن ازدياد نسبة التوقع لأمر ما تمنع حصول الأمر المتوقع، ولذا حين يعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي برنامجا لرفع معدلات الفائدة مع توقعات لمعاودة خفضها بعد ذلك بفترة قصيرة، فإن ذلك يؤدي إلى استعداد الجميع لهذه التغيرات ويهيئهم إلى تقبل الواقع الجديد والتأقلم معه.
الحالات الشاذة لا تقف هنا فقط، بل إن تكلفة التمويل العقاري لم تتأثر نتيجة الرفع غير المسبوق لمعدلات الفائدة، من قرب الصفر في 2021 إلى 5.5 في المائة خلال نحو عام ونصف، فرغم التأثر المباشر لتكلفة القروض العقارية لمدة 30 عاما نتيجة رفع معدلات الفائدة، إلا أن التكلفة الحقيقية التي يدفعها المقترضون أقل من ذلك بكثير، والسبب أن كثيرا من المقترضين كانت لديهم قروض سابقة بمعدلات فائدة متدنية، بحسب إدارة الأبحاث في "بانك أوف أمريكا"، نجد أن التكلفة الرسمية لهذه القروض ارتفعت بشكل حاد لنحو 8 في المائة، إلا أن التكلفة الفعلية التي يدفعها أصحاب المنازل كانت قريبة لـ4 في المائة فقط. لذا لم يكن هناك ضغوط مالية على الأسر نتيجة ارتفاع الفوائد العقارية، وبالتالي أسهم ذلك في تفادي الركود الاقتصادي.
أحد أهم المسببات الأخرى لتفادي الركود، كما يرى بعض المحللين، الضخ الكبير للسيولة التي قام بها الفيدرالي الأمريكي نتيجة اندلاع أزمة كورونا، حيث وصل كثير من تلك السيولة لجيوب المستهلكين، ما أمكنهم من استمرار الإنفاق رغم ارتفاع معدلات الفائدة. من المعروف أن قيام البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة ينتج عنه تراجع في شهية الناس نحو الاقتراض وبالتالي خفض الإنفاق، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث كان المستهلكون ينفقون بسخاء طيلة العام. بالنظر إلى مستويات الادخار لدى الناس في الأعوام الثلاثة الماضية نجد أنها ارتفعت بشكل كبير مباشرة بعد وقوع أزمة كورونا في أول 2020، فارتفعت من 500 مليار دولار إلى أكثر من 2 تريليون دولار في منتصف 2021، ثم أخذت في الانخفاض إلا أنها لا تزال أعلى من مستويات ما قبل كورونا، حيث هي الآن أعلى من تريليون دولار بقليل.
لا يمكن أن يحدث هناك ركود اقتصادي، وهذا ما أشارت إليه وزيرة الخزانة الأمريكية العام الماضي، طالما أن معدلات البطالة منخفضة وطالما أن المستهلكين مستمرون في الإنفاق بلا هوادة. من جهة أخرى، هناك من يعتقد أن بعض التأثيرات الاقتصادية لا تظهر بالسرعة المتوقعة، بل تأخذ وقتا طويلا نسبيا إلى أن تظهر مضاعفاتها الجانبية في الاقتصاد بعد حين من الزمن، ولذا هناك من يعتقد أن ركودا اقتصاديا سيأتي قبل نهاية 2024، هذا على الرغم من أن الدلائل تشير إلى انخفاض معدلات الفائدة في العام الجديد، ما يجعل من الصعب جدا أن يتحقق ذلك.
من جهة أخرى، اقتصادات دول الخليج تتأثر بالتطورات الخارجية، وبالذات الأمريكية منها بسبب ارتباط العملة والتأثيرات العالمية للاقتصاد الأمريكي، ففي كثير من الأحيان هناك تأثيرات مباشرة للدورة الاقتصادية الأمريكية في الاقتصاد الخليجي، ولذا فإن تحسن الاقتصاد الأمريكي وانخفاض معدلات الفائدة سيكون له تأثيرات إيجابية على كثير من مكونات الاقتصاد الخليجي في المرحلة القادمة.

إنشرها