100 صدمة تضخمية منذ السبعينيات .. إرشادات لصناع السياسات «2 من 2»
يمكن أن يجد صناع سياسات اليوم بعض العزاء في هذه النتيجة الخاصة بالموجات التضخمية. فقد يرى مسؤولو البنوك المركزية في عديد من الدول أن التغلب على التضخم أسهل هذه المرة بفضل مصداقية السياسات التي اكتسبوها على مدار عدة عقود من الإدارة الناجحة للاقتصاد الكلي. ومع تطبيق السياسات الصائبة، تستطيع الدول معالجة الضغوط التضخمية بسرعة أكبر مما حدث في الماضي.
لكن الأمر لن يكون سهلا. فالظروف في سوق العمل بالتحديد تتطلب كثيرا من الاهتمام. ذلك أن أجور العمالة في عديد من الدول انخفضت بالقيمة الحقيقية المعدلة حسب التضخم وقد تحتاج إلى زيادة أخرى لمواكبة ارتفاع الأسعار. غير أن نمو الأجور يمكن أن يؤجج التضخم إذا كان مفرطا في الارتفاع، ويسفر عن دوامات ارتفاع في الأجور والأسعار.
من المنظور التاريخي، نجد أن الدول التي نجحت في معالجة مشكلة التضخم في الأغلب ما كانت تسجل نموا أقل في الأجور الاسمية. ومن المهم في هذا الصدد أن هذا لم يؤد إلى انخفاض الأجور الحقيقية وفقدان القوة الشرائية، لأن انخفاض نمو الأجور الاسمية كان مصحوبا بانخفاض نمو الأسعار. المغزى هنا بالنسبة إلى صناع السياسات هو أهمية استمرار التركيز على الأجور الحقيقية وليس الأجور الاسمية، في مواجهة تطورات سوق العمل.
الدول التي نجحت في معالجة مشكلة التضخم كانت أفضل أيضا في الحفاظ على الاستقرار الخارجي. فكان الاحتمال أقل بأن يحدث انخفاض حاد في قيمة العملات المعومة تعويما حرا، كما كان الاحتمال أكبر بأن تظل نظم أسعار الصرف الثابتة قائمة. وليس في ذلك دعوة للتدخل في سوق الصرف. بل إن نجاح الدول في محاربة التضخم ـ من خلال تشديد السياسة النقدية وزيادة مصداقية السياسات ـ يبدو أنه كان عاملا فاعلا في دعم أسعار الصرف. في نهاية المطاف، تدفع الدول التي تسمح باستمرار التضخم ثمنا أكبر.
إن محاربة التضخم أمر صعب. غير أن من الأهمية بمكان أن ندرك الفوائد المترتبة على استقرار الأسعار. فمن المنظور التاريخي، نجد أن الدول التي تمكنت من معالجة مشكلة التضخم حققت نموا اقتصاديا أقل على المدى القصير مقارنة بتلك التي لم تعالجها. بيد أن هذه العلاقة اتخذت مسارا عكسيا في الأجلين المتوسط والطويل. فبعد خمسة أعوام من صدمة التضخم، حققت الدول التي تمكنت من معالجة مشكلة التضخم نموا أعلى ومعدلات بطالة أقل مقارنة بالاقتصادات التي سمحت للتضخم بالاستمرار. وتكمن وراء هذه النتيجة عوامل اقتصادية بديهية. فثمة مفاضلة بين خفض التضخم من ناحية وتحقيق نمو أعلى وخفض البطالة من ناحية أخرى. غير أن هذه المفاضلة تستمر فترة مؤقتة، حيث يتعافى النمو ويتم إيجاد الوظائف بمجرد السيطرة على التضخم.
على العكس من ذلك، فإن ترك التضخم دون علاج ينطوي على تكاليف تتمثل في عدم استقرار الاقتصاد الكلي وانعدام الكفاءة. وتتراكم هذه التكاليف ما دام التضخم المرتفع مستمرا. وبالتالي، فإن الخسائر التراكمية في الرفاهية جراء عدم معالجة التضخم أو ارتفاعه بشكل دائم تظل مهيمنة على الأفق الزمني المتوسط إلى الطويل. وفي نهاية المطاف، تدفع الدول التي تسمح باستمرار التضخم ثمنا أكبر.
يقف مسؤولو البنوك المركزية في طليعة الحرب على التضخم، وينبغي لهم الانتباه بشدة لما تحمله هذه الدروس. بيد أنه يجب على الحكومات ألا تزيد من صعوبة المهمة التي تضطلع بها السلطات النقدية فتفاقم الضغوط السعرية بانتهاج سياسة تيسيرية للمالية العامة. ولكي يصبح الدعم الذي تقدمه المالية العامة أثناء أزمة تكلفة المعيشة أقل إذكاء للتضخم، يتعين على الحكومات أن توجه جهودها للتخفيف عن أضعف الفئات، حيث يؤتي هذا الدعم أكبر الأثر في خفض المعاناة.
إن الماضي ليس مرشدا مثاليا للحاضر، لأنه لا توجد أزمتان متماثلتان بالضبط. رغم ذلك، فإن التاريخ يقدم دروسا واضحة لصناع السياسات في الوقت الحاضر. ومحاربة التضخم تشبه الماراثون، وليس سباق العدو السريع. فيتعين على صناع السياسات المثابرة وإثبات مصداقية السياسات واتساقها، مع التركيز على الجائزة التي تتمثل في استقرار الاقتصاد الكلي وتعزيز النمو من خلال إعادة التضخم بقوة إلى المستوى المستهدف. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ، فإن انخفاض التضخم في الآونة الأخيرة قد يكون عابرا، ومن الحكمة ألا يحتفل صناع السياسات قبل الأوان.