مصطلحات اقتصادية بدلالات استعمارية

يطرح كثير من الخبراء والباحثين في شؤون علوم السياسة والاقتصاد وحتى علم الاجتماع سؤالا مهما حول مدى تأثير اللغة والمصطلحات في تفكيرنا ونظرتنا للأشياء، أو أنها مجرد قوالب لما نفكر فيه، ونلاحظ أن هذه الإشكالية الفلسفية أثرت في فهمنا للعلاقة بين اللغة والتفكير وهناك فرضية شهيرة في هذا السياق تقول، إن بنية اللغة ومفرداتها يمكن أن تشكل أو تؤثر في الطريقة التي ينظر بها متحدثوها إلى العالم ويتصورونها، وهي في صورتها القوية، تعرف بحتمية اللغة، فالأخيرة هي التي تحدد الفكر، بينما في صورتها الضعيفة، والمعروفة بالنسبية اللغوية، فإنها تقترح أن اللغة مجرد مؤثر في الفكر ضمن مؤثرات، وعلى كل حال فقد أصبح من المسلم به أنها ليست مجرد وسيلة للتواصل فحسب، بل عامل مؤثر في المكونات المعرفية، مثل التصنيف والذاكرة والإدراك وآلية حل المشكلات، وفي كثير من الأحيان تؤثر في المعايير الثقافية والقيم والممارسات الاجتماعية، فاللغة من منظور واسع تشكل الأطر المعرفية للأفراد ونظرتهم للعالم وهذا يسهم في التنوع اللغوي وتنوع وجهات النظر المعرفية واختلاف طرق فهم العالم.
ومن خلال هذا السباق الفلسفي لدور اللغة، يمكن مناقشة تأثير ثلاثة مصطلحات لتقسيم العالم، وهو مصطلح العالم الثالث، والدول الناشئة والنامية، ودول الجنوب. والسؤال هنا هل هذه المسميات تشير إلى الشيء ذاته، أم أنها تدل على مقاصد معرفية أخرى مختلفة؟ وكان عدم رغبة عديد من الدول الرائدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في الوقوف إلى جانب حلف شمال الأطلسي بشأن الحرب في أوكرانيا سببا في ظهور مصطلح "الجنوب العالمي" مرة أخرى إلى الواجهة. تاريخيا ليست هناك حدود فاصلة لاستخدام هذه المفاهيم، بل لقد ظهرت بشكل متزامن، لكن هناك دلالات واضحة على هيمنة كل مصطلح خلال حقبة اقتصادية أو سياسية محددة، فالعالم الثالث ظهرت خلال فترة الحرب الباردة، للدلالة على الدول التي كانت خارج سياق تلك الحرب وكان كتاب عالم الاجتماع بيتر ورسلي الصادر 1964 بعنوان "العالم الثالث: قوة حيوية جديدة في الشؤون الدولية" قد منح هذا المسمى شعبية لأن "العالم الثالث" يشكل العمود الفقري لحركة عدم الانحياز، التي أسست قبل ثلاثة أعوام فقط كرد على الانحياز ثنائي القطب في الحرب الباردة، فهذا الشعار تمت صياغته ونشره من قبل الإعلام الغربي "العالم الأول" لدلالات لا يمكن حصرها، لكن مع الاستخدام الكثيف له ضمن سياقاته الجديدة أصبح مصطلح العالم الثالث دلالة على التخلف ويقصد الدول التي تشكل في معظمها دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا بد لهذه الدول أن تكون تحت سيادة وتوجيه دول من العالم الأول، ولذلك يصطحب معه صورا من الحقبة الاستعمارية والهيمنة الاقتصادية، وعامة فهي دول أكثر فقرا، وتعاني مستويات أعلى من عدم المساواة في الدخل وتعاني انخفاض متوسط العمر المتوقع وظروفا معيشية أكثر قسوة. لكنه فقد زخمه تماما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي 1991، وظهر على السطح مصطلح الدول النامية أو الناشئة، وقد تم الترويج له مع انتشار العولمة والشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات، فلم يعد من المناسب استخدام دول العالم الثالث وهو الذي كان يشير إلى التخلف أكثر من التقدم، فالصيغة الأكثر مناسبة مع زخم العولمة الذي اجتاح العالم حينها هي مصطلح "الدول النامية" الذي أصبح يشير إلى مجموعة متنوعة من الدول التي تتميز بمستوى منخفض من التطور الاقتصادي والاجتماعي وتواجه تحديات في التنمية الاقتصادية والبنية التحتية التي تسببت في مشكلات مثل الفقر، وذلك رغم أنها تقريبا هي الدول نفسها التي كان يشار إليها بمسمى العالم الثالث، فهي تشمل دولا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ودخلت دول في أوروبا ممن كانت ضمن الاتحاد السوفيتي سابقا، وأصبح فارغا من دلالات التخلف، والديكتارتورية والاستغلال، بل يتضمن النمو والتقدمية ودلالات لا تخفى تشير إلى أن المشكلة محصورة في الإمكانات والتمويل. وهكذا سمح المفهوم بتدفق الأموال لهذه الدول من مسارات متنوعة، وتم تطوير الأسواق المالية، مع تحرير حركة الأموال الأجنبية، أملا في أن تصل هذه الدول إلى مستوى الدول المتقدمة ويتحقق نموذج العولمة في أكمل صورة، لكن ذلك لم يتحقق لأي دولة من تلك التي سعت بجهدها للخروج من نطاقه، فالخروج منه كان يعني وقف عمليات التمويل ومزايا لا حصر لها ضمن المؤسسات الدولية والاتفاقيات.
وقد حدثت نقاشات حادة في الولايات المتحدة على ضوء الأزمة مع الصين فظهرت مطالبات بإنهاء وضع الصين كدولة نامية وتجريدها من هذا اللقب للتأثير في استحقاقاته، فالصين أصبحت تتشبث بمسمى "الدولة النامية"، لتعفي نفسها من مسؤوليتها الدولة المتقدمة وتحصل على مزايا دولة نامية بموجب شروط المعاهدات الدولية. ومع تزايد الصراع بين الصين والولايات المتحدة من جانب والنزاع الروسي - الأوكراني من جانب آخر، فقد أصبح عبئا عليها وله آثاره التي لم تعد الدول المتقدمة تتحمله، لذلك فإن هناك نزعة واسعة لإحالته للتقاعد، مع تزايد استخدام مصطلح الجنوب العالمي. وتشير البيانات إلى أن عمليات البحث عنه تجاوزت باستمرار عمليات البحث عن الأسواق الناشئة منذ أوائل 2022، لكن هذا ليس مجرد تغير في المصطلح بل هو عميق الدلالة حيث بدأت رياح العولمة تخفت مع انخفاض ملكية المستثمرين الأجانب لسندات الأسواق الناشئة المقومة بالعملات المحلية، وبعد أن كان المستثمرون الدوليون يمتلكون ما متوسطه نحو 21 في المائة من السندات بالعملات المحلية في الأسواق الناشئة. والآن أصبح هذا الرقم 13 في المائة فقط. هكذا تدور المسميات لتشكل مفاهيم في العالم، فتحول الاهتمام من السياسة للاقتصاد قاد للتحول من مصطلح العالم الثالث إلى الدول النامية، والتحول اليوم من الاقتصاد للسياسية يقود للتحول من استخدامه الدول النامية إلى دول الجنوب العالمي، ويقول خبراء إن تفوق مصطلح الجنوب العالمي على الأسواق الناشئة يعد انتصارا للسياسة على الاقتصاد، ويبدو أن المستثمرين يغادرون الدول النامية لأن السياسة هي المسيطرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي