النظام الصحي والعلاقات التعاقدية

يعد انتشار جائحة كورونا علامة فارقة في مؤشرات اقتصاد العمل، حيث أسهم في تغيير الخريطة وعدد من المفاهيم منذ ذلك الحين، فالتدابير التي تم تطبيقها للسيطرة على انتشار الفيروس، كعمليات الإغلاق، والتباعد الاجتماعي، وسياسات وتنظيمات العمل عن بعد، قادت إلى تغييرات جوهرية في شكل العلاقات التعاقدية بين العمال وأصحاب العمل. وكانت ساعات العمل أهم الموضوعات التي شهدت تحولا، فهي أصبحت أكثر مرونة للموظفين، ولم يعودوا ملزمين بجدول الساعات الثماني من الصباح حتى المساء، حيث تم تعديلها مع الجائحة لتناسب الاحتياجات والمسؤوليات، لكن ما إن انتهت الجائحة حتى اكتشف كثير من العمال في شتى المهن، أهمية التوازن بين العمل والحياة، بل حتى العمل والقدرة على التنقل بين الحدود والدول، وتأكد كثير من العمال أيضا أن حجم الأجور التي كانوا يتقاضونها وآليات دفع الأجور وزمنها، جميعها محل تفاوض وليست قواعد لا مفر منها، واكتشف البعض الآخر حجم الطلب الحقيقي على مهاراتهم وحجم الخسائر التي يتعرضون لها عند التورط في عقود طويلة وساعات عمل محصورة.

لذا، وبعد انتهاء الجائحة، اختار كثير من العمال في مهن مختلفة عقودا غير تقليدية تسمح لهم بتحقيق توازن أفضل بين عملهم والتزاماتهم الشخصية. لكن لم يكن من المتصور أن يصل هذا النوع من العقود والأعمال إلى مهنة التمريض، وهي المهنة التي تتطلب ساعات عمل منتظمة وتبادلا في الأدوار دقيقا ومحددا، والأهم تغيير مواعيد العمل فيما يسمى نوبات العمل "وردية عمل"، لكن تقريرا نشرته "الاقتصادية" يؤكد أن ما تشهده الولايات المتحدة من نقص في أعداد الممرضات، جعل المستشفيات الأمريكية تستعين بالتطبيقات، التي توفر هؤلاء المتخصصات في المجال الصحي، من خلال مفهوم "العمل الحر" وبعقد تمريضي مؤقت، في وقت تعج فيه المستشفيات بالمرضى.
وهنا يشير مفهوم العمل الحر، المعروف أيضا باسم العمل المستقل، إلى وظائف أو مهام قصيرة الأجل ومرنة، وفي الأغلب ما تكون مؤقتة ويتم ترتيبها من خلال منصات أو تطبيقات عبر الإنترنت، مثل منصة "كير ريف"، التي تشبه منصات عديدة مثل أوبر وليفت وغيرها، فهذا النوع من عقود العمل يمنح العمال المرونة والاستقلالية والقدرة على اختيار الوقت والمدة التي يريدون العمل فيها، لكنهم يفتقدون أيضا مزايا الأمان الوظيفي الذي يتمتع به الموظفون التقليديون، والتأمين الصحي والإجازات مدفوعة الأجر وخطط التقاعد. لكن هذه التحولات مثيرة جدا، ففي التمريض مثلا، وهي مهنة من الصعب فهم كيف تتم إدارتها وفق هذا النموذج، "العمل الحر"، نجد أن الجائحة دفعت نحو 100 ألف ممرضة في الولايات المتحدة لترك وظائفهن بسبب الضغوط الناجمة عن هذه الأزمة الصحية، وبحلول 2027 هناك أكثر من 610 آلاف ممرضة سيتركن هذه المهنة بسبب التعب الكبير، وفي مقابل ذلك هناك تزايد مستمر في الممرضات المتاحات عبر منصة "هيلث كير" وبنسبة 54 في المائة في 2022، وارتفع عدد المناوبات المقترحة عبر المنصة بـ62 في المائة، والسبب يعود إلى أن هذا النموذج من العمل يحقق لهن مردودا أعلى بـ30 في المائة من العقود التقليدية مع المستشفيات.

هذا يشير إلى أن المزايا التي افتخرت بها نقابات العمال طوال عقود، لم تعد تجذب العمال، فلا التأمين الطبي، ولا خطط التقاعد، تعادل أهمية ساعات العمل المرنة، والدفع عند الطلب، فالعمال أصبح لديهم حق اختيار عدد مرات العمل "يوم واحد فقط خلال الأسبوع"، أو "عدة مرات في سبعة أيام"، وساعات العمل بين ساعة أو أكثر حتى ثماني ساعات، ومع هذه التغيرات وقوة العمال المتصاعدة وتوافر المنصات المختلفة، لم يكن أمام أصحاب العمل سوى الرضوخ لهذه العقود الجديدة، التي وصفت بأنها مربحة أكثر للممرضات وتتسم بمرونة أكبر من ناحية أوقاتهن، فبدأت المستشفيات في أمريكا قبول هذه الأنواع من العقود والتعامل معها، وتم فعليا توفير 80 في المائة من الاحتياجات بهذه الطريقة في أحد المستشفيات التي استطلع التقرير أعمالها، حتى لو واجه المستشفى عقبات مثل الدراية بها ومكوناتها ومناطقها اللوجستية.
ونلاحظ أن هذا واقع جديد في سوق العمل يفرض بيئات عمل غير مريحة للمؤسسات الصحية، فلم يعد هناك عدد كاف متوافر دائما للتعامل مع حالات الطوارئ أو العدد الكبير من المرضى. ومن اللافت أن الممرضات اللاتي تركن العمل، وفقا للعقود طويلة الأجل غير المريحة، عدن إلى العمل في المستشفيات نفسها لكن بأجور أعلى قد تتخطى ضعف ما تقاضينه من قبل، وبأوقات مرنة، هذا يشير إلى أن رياح سوق العمل تسير اليوم عكس رغبات أصحاب العمل، وعكس رغبة الرأسماليين بتعبير ومفهوم آدم سميث، والعمال هم اليوم أصحاب القرار، هم من يختارون الوقت والسعر، وهم من يحددون سقف الإنتاج المطلوب منهم، لن يعودوا بحاجة إلى نقابات العمال التي تدافع عن حقوقهم، فقد أصبحت المنصات هي نقابات العمل، لم يعودوا يتحدثون عن الحوار لرفع الحد الأدنى للأجور، وقد أصبحوا هم من يحددون ذلك.
ومن هنا، فإن كل هذه التغيرات العميقة، التي تبعتها دعوات تطالب بتخفيض أيام العمل إلى أربعة، تشير جميعها إلى تغيرات عميقة لم تأخذها الجهات المنظمة لأسواق العمل على محمل الجد حتى الآن، فما حدث في سوق التمريض ينتقل تدريجيا إلى التدريس ومهن أخرى لم يكن من المتصور حدوث تغيير فيها. وإذا لم تطور الجهات المنظمة للأسواق سياسات جديدة وأنظمة عمل نوعية تتناسب مع هذه التحولات، فإن الأمور قد تصبح في يد المنصات التي ستضع قوانينها على الطرفين، فهي المنظم الجديد، وهي مفهوم السوق الحالية وآلياتها، بل تشريعاتها وقوانينها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي