الاقتصاد السنغافوري والمعالجات المطروحة

لطالما عرفت سنغافورة، أو دولة المدينة الواحدة كما تسمى في الأدبيات الآسيوية، باقتصادها القوي. لكن اقتصادات الدول، ولا سيما تلك المعتمدة على التصدير، كالاقتصاد السنغافوري عرضة للتقلبات وفقا للظروف السياسية الإقليمية والدولية، خصوصا إذا كانت هذه الظروف ذات انعكاسات سلبية على شركائها التجاريين الرئيسين.
ومن هنا قيل إن السياسة والاقتصاد مرتبطان، وكل منهما يؤثر في الآخر بصورة من الصور.
في حال سنغافورة، التي ليست لها موارد طبيعية، وبالتالي يعتمد اقتصادها ونموها ودخلها القومي بصورة رئيسة على الخدمات والصناعة من أجل التصدير، نجد أن اقتصادها عانى خلال تفشي وباء كورونا بسبب توقف الطلب على صادراتها وما تقدمه موانئها من خدمات الشحن والمناولة والتخزين وإعادة التصدير.
مع انقشاع الوباء وعودة الأحوال إلى طبيعتها نهض الاقتصاد السنغافوري مجددا، لكن بقايا آثار الجائحة ظلت تطل برأسها مسببة شيئا من الركود. ورغم أن الاقتصاد السنغافوري أثبت، خلال الأشهر الماضية من العام الجاري، أنه يخطو خطوات قوية باتجاه التعافي التام، إلا أن البيانات الرسمية التي صدرت الشهر الماضي أفادت بأن النمو الاقتصادي لا يزال بطيئا، بل يمكن أن يتباطأ أكثر في الأشهر المقبلة من العام الجاري وطول 2024 إذا كان أداء الاقتصادين الأمريكي والصيني أقل من التوقعات الأساسية، علما أن الولايات المتحدة والصين هما من الشركاء التجاريين الرئيسين لسنغافورة.
ويكفي دليلا على صحة ما نقول، أن سلطات النقد السنغافورية أصدرت في 13 أكتوبر بيانا توقعت فيه أن يكون معدل النمو في العام المقبل بأكمله ما بين 0.5 و1.5 في المائة، وأن ذلك مرهون بحدوث تحسن اقتصادي وزيادة في الطلب في الولايات المتحدة والصين خلال العام المقبل.
في مقابل هذا، استعرضت مذكرة بحثية أعدها محللون اقتصاديون من شركة BMI Research أوضاع سنغافورة بصورة أقل تفاؤلا. بعبارة أوضح، توقع هؤلاء أن يهبط معدل النمو في سنغافورة خلال العام المقبل من 1.1 إلى 0.8 في المائة، بل قد يهبط إلى 0.5 في المائة بسبب التباطؤ والركود المتوقع لدى الشريكين التجاريين الرئيسين "أمريكا والصين".
طبقا للإحصائيات والبيانات الرسمية المتوافرة، فإن الصادرات المحلية الرئيسة في سنغافورة، التي يعدها المحللون مقياسا للطلب الخارجي، سجلت في سبتمبر الماضي انخفاضا بنسبة 13 في المائة للشهر الـ12 على التوالي بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي كله. وأكثر الصادرات التي عانت ضعف الطلب كانت الأجهزة الإلكترونية والكهربائية.
إلى ذلك، بينت تلك الإحصائيات أن قطاع التصنيع الذي يمثل خمس الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة انكمش بنسبة 5 في المائة على أساس سنوي في الربع الثالث بعد انخفاض بنسبة 7.7 في المائة في الربع الثاني.
عليه فإن حكومة رئيس الوزراء لي هسيين لونج، الذي يقود سنغافورة منذ 12 أغسطس 2004، الذي حقق نجاحات وإنجازات كثيرة مذاك إلى اليوم، ملزمة دستوريا بإدارة ميزانية متوازنة خلال ما تبقى من ولايتها التي ستنتهي في 2025، علما أن هذه الميزانية تشكو عجزا نسبيا بسبب قيام الحكومة بالإنفاق من الميزانية العامة على دعم الاقتصاد وتعويض المتضررين وفاقدي الوظائف طوال فترة جائحة كورونا.
يقول المراقبون والمحللون إن الحكومة السنغافورية باتت أمام مأزق غير مسبوق وأنه ما من علاج سوى زيادة الصادرات إلى الخارج، وكبح جماح التضخم من أجل إنعاش الأسواق المحلية، وتحريك قطاعات الخدمات والبناء التي كانت دوما تخفف من آثار انخفاض الطلب الخارجي على الصادرات.
غير أن هذه الوصفة العلاجية مشكوك في نجاعتها بسبب العوامل الخارجية والأوضاع الجيوسياسية وحالة عدم اليقين، وكلها تشكل أخطارا على نمو هذه الدولة الصغيرة الرائدة خلال العام المقبل وما تبقى من العام الجاري، خصوصا إذا ما تسبب تدهور الأوضاع الجيوسياسية في ارتفاع أسعار النفط الذي بدوره يعني ارتفاعا في تكلفة الطاقة المستوردة، وصعودا للتضخم في البلاد، ولا سيما أن المستهلك السنغافوري "أفرادا وشركات" على موعد في يناير 2024 مع ارتفاع ضريبة السلع والخدمات من 8 إلى 9 في المائة، وزيادات في أسعار النقل العام والمياه.
يذكرنا تان وين وي المحلل الاقتصادي الآسيوي بالصعوبات التي واجهت الاقتصاد السنغافوري في 2020 بتأثير من ضعف الطلب الصيني كنتيجة لتراجع قطاع العقارات والبناء والتشغيل والصادرات في الصين في ذلك العام الحرج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي