العملات الرقمية والبنوك المركزية .. ما التأثيرات؟

منذ عدة أعوام وهناك اهتمام متزايد من قبل البنوك المركزية بالعملات الرقمية، وقد تمت مناقشة هذا الموضوع في قمة العشرين المنعقدة أخيرا في الهند، وبالذات حول التأثيرات المحتملة لهذه العملات الرقمية في النظام النقدي والمالي وفي قدرة البنوك المركزية على تنفيذ سياساتها النقدية كما ينبغي.
قبل عدة أعوام دقت رئيسة البنك المركزي الأوروبي ناقوس الخطر بالتحذير من عدم أخذ موضوع العملات الرقمية بجدية تامة من قبل البنوك المركزية، فقالت حينها "إن التطورات على صعيد العملات الرقمية ستؤدي إلى التخلص من العملات الوطنية والقضاء على الدور الوسيط للبنوك المركزية"، مشيرة إلى أن العملات الرقمية تتيح إجراء العمليات المالية من شخص إلى آخر بشكل مباشر، دون وسيط بنكي ولا مقاصة ولا تسوية.
من جهته قال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "إنه لا يرى ما يمنع من استخدام العملات المشفرة على نطاق واسع متى توافرت شروط أربعة، وهي أولا أن تتم العملية من خلال طرف وسيط، وثانيا أن تضمن الخصوصية، وثالثا أن تسمح بالتحقق من هوية المتعاملين، ورابعا أن تكون قابلة لنقل الملكية وأن تعمل مع الأنظمة التشغيلية القائمة". غني عن القول أن شروط جيروم باول تتعارض مع طريقة عمل العملات الشعبية المشفرة الحالية، مثل بيتكوين وغيرها، التي تستغني تماما عن أي طرف وسيط، باستخدام تقنية الكتل "بلوكتشين"، وهي تضمن خصوصية المتعاملين لكن بطريقة مخالفة لما يهدف إليه جيروم باول، وهذه العملات بصورتها الحالية لا تسمح بالتحقق من الهوية، ولم تصمم للعمل مع الأنظمة المالية التقليدية.
في استطلاع حديث لبنك التسويات الدولية وجد أن أكثر من 20 بنكا مركزيا يتوقع إطلاق عملات رقمية متداولة قبل 2030، والهدف من ذلك عدم ترك المدفوعات الرقمية في أيدي القطاع الخاص والحفاظ على دور البنوك المركزية، فهم يرون أنه بالإمكان عمل نسخ رقمية للعملات الوطنية الحالية، وإن لزم الأمر فسيقومون بإطلاق عملات رقمية مشفرة بديلة للعملات الوطنية، كما تم حاليا من قبل البنوك المركزية في نيجيريا والبهاما وشرقي الكاريبي، أو كما يتم في أماكن أخرى مثل سويسرا والصين، لكن على مستوى المعاملات عبر الحدود وعلى مستوى عمليات الجملة بين البنوك ذاتها.
الاهتمام بالعملات الرقمية ليس حكرا على الدول الصناعية الكبرى، بل إن هناك اهتماما متزايدا من قبل البنوك المركزية الخليجية، حيث قام كل من البنك المركزي السعودي ونظيره الإماراتي في وقت سابق بإطلاق مشروع "عابر" بالتعاون مع شركة الحاسبات العملاقة "آي بي إم"، بهدف التعرف على التقنية ودراسة جدواها من خلال إنشاء سلسلة كتل مخصصة لهذا الهدف، وإصدار عملة رقمية مشتركة بالتعاون مع بعض البنوك التجارية في المنطقة. لكن هذا المشروع ركز على جزئية آليات الدفع والتسوية المالية الفورية ولم يستهدف المشروع دراسة إيجاد عملة رقمية شعبية ولم يتطرق إلى التأثيرات المحتملة في آلية السياسة النقدية المتبعة من قبل البنوك المركزية.
على صعيد تأثير العملات الرقمية في السياسة النقدية صدرت هذا الشهر دراسة في هذا الجانب بتكليف من صندوق النقد الدولي، حيث أكدت الدراسة وجود اهتمام من قبل نحو 93 في المائة من البنوك المركزية بالعملات الرقمية، ومن جهة أخرى تعمقت الدراسة بتحليل مدى قدرة العملات الرقمية على تحقيق أهداف البنوك المركزية حين يتم رفع معدلات الفائدة أو إجراء أي من سياساتها النقدية وتأثير ذلك في الاستثمار والاستهلاك والنمو الاقتصادي والتضخم والبطالة وغير ذلك من المكونات الاقتصادية المستهدفة من قبل البنوك المركزية.
خلصت الدراسة إلى أن دوافع العمل بالعملات الرقمية من قبل البنوك المركزية تختلف من دولة إلى أخرى، فهناك من يتوقع لها أن تكون وسيلة لتحسين فعالية سياستها النقدية، وآخرون يرونها وسيلة لتطوير أنظمتها المالية وسلاحا ضد المخاطر التي قد تنتج عن التطورات السريعة للمدفوعات الرقمية الحالية وكنوع من الحماية ضد التعامل المنفلت بالعملات الرقمية الشعبية. وتبقى هناك التأثيرات المحتملة في الاقتصاد الكلي، التي يرى الباحثون أن ذلك يعتمد على نموذج عمل العملات الرقمية المتبع من قبل البنك المركزي وعلى طبيعة البيئة الاقتصادية التي تعمل فيها تلك العملة الجديدة.
من جهتها تقوم الهيئات المسؤولة عن الأوراق المالية بالتردد في السماح للعملات المشفرة الشعبية بالتداول من خلال الأسواق المالية، حيث لا تزال الهيئة الأمريكية تعارض القيام بذلك، حيث تم السماح لتداول العملات الرقمية كعقود مستقبلية وليس كأصول متداولة، كما يحدث في أسواق الأسهم والسلع والعقار، والسبب أن هذه الهيئات لا تزال تتساءل: هل العملات المشفرة أوراق مالية كالأسهم، أم أنها سلع كالذهب والنفط، أم أنها عملات ورقية كالدولار واليورو والين؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي