اختصاص المحاكم التجارية في عقود التجارة الدولية
عالم التجارة اليوم يتسم بتنوع وتعقيد في العقود والعلاقات المحلية منها والدولية. لذا، لا يكاد يخلو عقد تجاري من تنظيم لموضوعي النظام المطبق عليه، والمحكمة المختصة بنظر النزاعات الناشئة عنه. فالأول، يحدد الدولة التي يخضع العقد لأنظمتها. والآخر، ينص على الاختصاص المكاني للمحكمة التي ستنظر النزاع عند نشوئه، لا سمح الله. وفي الأحوال الاعتيادية في العقود التجارية يكون كل من النظام والمحكمة المختصة ينتميان إلى دولة واحدة، فتطبق المحكمة الأنظمة الوطنية على النزاع المعروض أمامها. بيد أنه في حالات أخرى -كالعقود التجارية الدولية- قد يتفق أطرافها الذين يحملون جنسيات دول مختلفة على تطبيق نظام دولة معينة على العقد، بينما يقع اختصاص نظر النزاعات الناشئة عنه في دولة أخرى.
هذه المساحة من الحرية في الاتفاقات الدولية تثير كثيرا من التساؤلات القانونية حول آليات تنظيم النظر فيها من قبل المحاكم وما يجب تطبيقه من أحكام عليها. فالاختصاص النوعي للمحاكم الذي يحدد نوع المنازعات التي تنظرها المحاكم المختلفة عادة ما يتم تنظيمه بواسطة الأنظمة الداخلية للدولة. ومثال ذلك المادة الـ16 من نظام المحاكم التجارية التي نصت على اختصاص القضاء التجاري بنظر عدة أنواع من المنازعات، وذكرت منها "الدعاوى والمخالفات الناشئة عن تطبيق أحكام نظام الشركات"، والمقصود في هذه المادة هو أحكام نظام الشركات السعودي الذي تخضع له جميع الشركات التي تحمل الجنسية السعودية.
فبموجب ما سبق، إذا كان محل النزاع يقع خارج المملكة وكان أحد أطرافه أو كلاهما عبارة عن مستثمرين لا يحملون الجنسية السعودية، فإن قابلية حدوث تنازع سلبي للاختصاص بين المحاكم السعودية واردة. فتقرر المحكمة التجارية عدم اختصاصها بنظر النزاع، كون محل الحق موضوعه شركة أجنبية لا جنسية سعودية لها، وبالتالي لا يطبق عليها نظام الشركات السعودي. في المقابل، ترفض المحاكم العامة نظر النزاع، كون موضوعه عملا تجاريا بين شركات تجارية سواء كانت وطنية أو أجنبية.
لتدارك حصول مثل هذا التنازع بين المحاكم، قام نظام المحاكم التجارية في مادته الـ15 بالإحالة إلى قواعد الاختصاص الدولي المنصوص عليها في نظام المرافعات الشرعية. فالمادة الـ24 من هذه القواعد قررت اختصاص محاكم المملكة بنظر الدعاوى التي ترفع على الطرف الذي يحمل الجنسية السعودية ولو لم يكن له محل إقامة داخلها، إذا قبل هذا الطرف ولاية المحاكم السعودية. بل إن المادة الـ28 ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما نصت على أنه "فيما عدا الدعاوى العينية المتعلقة بعقار خارج المملكة، تختص محاكم المملكة بنظر الدعوى إذا قبل المتداعيان ولايتها ولو لم تكن داخلة في اختصاصها". مما يجيز نظر المحاكم السعودية للخصومة، ولو على التصرف القانوني الأجنبي الخارج عن اختصاصها في الأصل، وذلك عندما يتفق أطراف العقد على مثل هذا الاختصاص، وهو ما يصطلح عليه في القانون الدولي بمصطلح "الخضوع الاختياري". فمن ذلك يمكن الخلوص إلى انعقاد الاختصاص للمحاكم التجارية نوعيا بنظر النزاعات التجارية الدولية التي تحتوي على مستثمر أجنبي لا يقيم في المملكة طالما أنها لا تتعلق بعقار خارج المملكة.
من جهة أخرى، فإن اختصاص القضاء التجاري السعودي بنظر هذا النوع من النزاعات لا يستوجب تطبيق الأنظمة السعودية عليه إذا كان العقد الدولي يتضمن اتفاقا على تطبيق أنظمة دولة أخرى أو نشأ في ظل قانون أجنبي وفي دولة أجنبية. ذلك أن أحكام العقد قد تتعارض مع الأنظمة السعودية، وليس من العدالة إخضاع أطراف العقد لنظام دولة لم تتجه إرادتهم للاحتكام بنظامها فقط لأن القاضي ينتمي إليها. من هذا المبدأ، فإن وظيفة القاضي السعودي في هذه الحالة هي بحث موضوع النزاع ومدى صحته والمسؤولية المترتبة عليه عبر الاحتكام إلى قواعد قانون الشركات للدولة المتفق عليها بين أطراف العقد والتي جرت تلك التصرفات القانونية وأسست بناء على ذلك قانونها. فينظر في كيفية انطباق تلك الأحكام على النزاع المعروض أمامه ومدى اتفاقها مع قواعد الشريعة الإسلامية. فإن اقتضت عملا محرما تخلى عن الحكم بموجبها، وقضى بموجب قواعد الشريعة الاسلامية وأحكام النظام الأشبه والأقرب لها في المملكة، وإن كانت متسقة غير مخالفة للشرع قضى بموجبها، ويعرف ذلك في القانون الدولي الخاص بمصطلح "الإسناد".
نستنتج من ذلك، أن تنظيم الاختصاص القضائي في النزاعات التجارية الدولية يواجه تحديات قانونية تتطلب تحقيق التوازن بين حقوق الأطراف المتنازعة للوصول إلى العدالة المنشودة. وتحقيق هذا التوازن يحتاج إلى فهم عميق للقوانين المحلية والدولية، ويتطلب أيضا تطبيقا حكيما لمفهوم الإسناد المتعارف عليه في القانون الدولي. لذلك فإن تطوير نهج قانوني مرن ومتكيف أصبح مطلبا يفرضه الواقع العملي في المملكة لتوفير إطار قانوني يسهم في دعم وتعزيز ثقة المستثمر الأجنبي بالأنظمة القضائية السعودية، ما سينعكس في النهاية على تطوير التعاملات التجارية الدولية السعودية.