الهند والقضية الأوكرانية في قمة العشرين
ربما لم تجد نيودلهي نفسها يوما في مأزق سياسي كالمأزق الذي تعيشه منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، ونعني بذلك مأزق الاختيار بين الغرب وروسيا، أو المفاضلة بين شريكين استراتيجيين.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الموضوع كتب فيه كثير وأشبع بحثا، لكنه يعود مجددا إلى الواجهة مع استضافة الهند لقمة مجموعة العشرين التي بدأت في التاسع من سبتمبر الجاري.
وللتذكير، فإن نيودلهي خالفت عددا من ديمقراطيات العالم فلم تقم بإدانة موسكو صراحة لاجتياحها أوكرانيا، بل رفضت أيضا التصويت مع قرارات أممية ضد روسيا في مناسبات عدة، ما تسبب في صدمة للأوكرانيين وحلفائهم الغربيين. ولعل أقوى موقف هندي مسجل لمصلحة كييف هو قول الزعيم الهندي ناريندرا مودي لنظيره الروسي في سبتمبر 2022 "إن الزمن اليوم ليس زمن حروب"، أما عدا ذلك فلم تخرج المواقف الهندية عن دائرة استغلال الوضع ببراغماتية دقيقة في تعزيز مصالحها الوطنية. وبعبارة أخرى، حرصت الدبلوماسية الهندية على السير على خيط رفيع بين الغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى بحيث لا تخسر أيا من الجهتين، وإن أكدت على أهمية احترام مبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي ذات الصلة باحترام سيادة وسلامة أراضي الدول، وعبرت في بعض المناسبات عن عدم رضاها عما يجري في أوكرانيا.
فروسيا شريكتها الاستراتيجية القديمة منذ زمن السوفيات، ومصدر الجل الأعظم من ترسانتها العسكرية، بينما الغرب في مقدمة شركائها التجاريين والاقتصاديين ومصدر الاستثمارات والتكنولوجيا الحديثة المتطورة ونحو 30 في المائة من وارداتها من الأسلحة المتطورة، علاوة على أن الغرب شريك محوري للهند في استراتيجيات التصدي لتمدد غريمتها الصينية في المحيطين الهندي والهادئ.
لقد كان الغرب يأمل أن تراجع الهند نفسها مع مرور الوقت وتغير مواقفها بحيث تعطي ظهرها لروسيا. وكان الرهان هو على عوامل مثل تأثرها بتعطل سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الغذاء، وعجز المصانع الروسية عن مدها بالسلاح وقطع الغيار في ظل الحرب، وتزايد اعتماد روسيا على غريمتها الصينية كحليف من أجل تخفيف العقوبات القاسية المفروضة عليها. إلا أن شيئا من هذا لم يحدث، وثبت خطأ الرهانات الغربية.
إذ برهنت الأحداث أن روسيا بالنسبة للهند قوة جيوسياسية بارزة لا يمكن التفريط في صداقتها ودعمها الدبلوماسي والتسليحي، خصوصا في ظل احتفاظ النخبة السياسية الهندية بعلاقات متجذرة على مدى عقود مع الروس وتعاطف الرأي العام الهندي مع موسكو كضحية لسيناريوهات الناتو بصفة عامة. وليس أدل على ذلك من تصريح سوبرامانيام جايشانكار وزير الخارجية الهندية خلال زيارته لموسكو في نوفمبر الماضي من أن بلاده ترتبط مع روسيا بعلاقات "قوية وثابتة"، ثم رفضه المطلق خلال مقابلاته مع الإعلام الغربي لفكرة الضغط على الهند كي تغير مواقفها لمصلحة هذه الجهة على حساب الجهة الأخرى، وتأكيده على أن نيودلهي صاحبة قرار مستقل وتتبنى المواقف التي تعزز مصالحها الوطنية العليا، وتتمسك بمبدأ تنوع شراكاتها الاستراتيجية، فضلا عن تلميحه إلى أن بلاده تؤيد وتدعم فكرة "نظام عالمي متعدد الأقطاب" التي يدعو لها الكرملين.
وغني عن البيان أن نيودلهي بهكذا مواقف متأرجحة، كسبت روسيا ولم تخسر الغرب، الذي لحاجته إلى ثقلها ودورها الإقليمي في استراتيجيات التصدي للعملاق الصيني، غضت الطرف عن تعاملاتها التجارية مع الروس ولم تعاقبها، فراحت تحصل على النفط الروسي بأسعار منخفضة في تجارة صبت في مصلحة المشتري والبائع معا، بل إن مواقفها الحذرة هذه أكسبها أيضا اهتماما كبيرا تمثل في تحولها إلى بؤرة زيارات ونشاطات لمسؤولين روس وغربيين.
نعم، لقد ظلت الهند في موقف لا تحسد عليه منذ اندلاع الحرب الأوكرانية لجهة محاولة تحقيق التوازن بين عديد من التهديدات والمصالح والأولويات المختلفة، لكنها تبدو اليوم مع استضافتها لقمة العشرين عازمة على اتخاذ مواقف أكثر حيادية، مع تفهم أكبر لوجهة نظر أوكرانيا، التي تفادى مودي ووزراؤه ذكرها في بياناتهم وتصريحاتهم، من منطلق أنه مع انحياز الصين المتزايد لروسيا، يمكن للهند الاستفادة من حيادها في لعب دور قيادي.
من هنا، يمكن فهم أسباب قيام أمينة جباروفا نائبة وزير الخارجية الأوكراني بزيارة نيودلهي في أبريل 2022 في أول زيارة لمسؤول أوكراني للهند منذ اندلاع الحرب، حيث أدلت بتصريح قالت فيه إن الحرب كان لها تأثير عالمي، وبالتالي لا ينبغي النظر إليها كمجرد قضية أوروبية، مضيفة أنه يمكن للهند أن تلعب دورا في حل الصراع. والواضح هنا أن كييف، التي لم تتحمس كثيرا لمقترحات السلام الصينية ووصفتها بالمنحازة، تثق أكثر في الهند كوسيط للسلام، وهو أمر كان على نيودلهي أن تفكر فيه قبل بكين لكونها تحتفظ بعلاقات طيبة وتعاون قديم مع مختلف أطراف الأزمة.
إلى ذلك أرادت المسؤولة الأوكرانية أن تشجع الهند على دعوة رئيسها فولوديمير زيلينسكي إلى قمة العشرين كي يعرض خطته للسلام ذات النقاط العشر، وعلى ضم صوتها لصوته بغية إطلاق نداء عالمي للوصول إلى حل من منبر الدول الأكثر نفوذا اقتصاديا في العالم، لكن يبدو أن نيودلهي لا تريد تحويل استضافتها للقمة إلى حلبة مواجهة، فآثرت عدم دعوة زيلينسكي للمشاركة.