Author

السويد .. فهم أعرج للحرية

|

من النادر أن كان لمفهوم أو فلسفة من التأثير في العالم المعاصر مثل الليبرالية. وحتى عقد ونيف، كان الناس في الغرب يتغنون بالليبرالية ويرون فيها خلاصا للبشرية، ليس من الفقر وغياب التنمية بل أيضا في تبني نظم حكم ديمقراطية تكون فيها السيادة للشعب وليس للنخبة. وكل مفهوم أو فكر يبقى سائبا إن لم نقدم تعريفا له. والتعريف المعجمي والموسوعي لليبرالية، كما تأتي به المراجع الغربية ذاتها، يرقى إلى نوع من الحلم يتمناه الفرد والمجتمع ـ ولكنه مع الأسف حلم عسير التطبيق.
لنأخذ تعريفا رائجا ومبسطا لليبرالية والذي يؤطرها بالاستعداد والرغبة في حماية السلوك والآراء والقيم المختلفة عن التي لدينا، وكذلك الانفتاح على قيم وآراء جديدة.
هذا من ناحية القيم، بيد أن لليبرالية شقا آخر لا يقل أهمية حيث يضعها بمنزلة فلسفة اجتماعية وسياسية واقتصادية هدفها تعزيز الحريات الفردية والمدنية وكذلك النظم الديمقراطية والاقتصاد الحر.
تأخذ "حرية الفرد" حيزا كبيرا في الفكر الليبرالي وممارسته على أرض الواقع. مع ذلك يرى الليبراليون أن من الأهمية بمكان وجود حكومة قوية لكي تضمن عدم انتهاك هذه الحقوق. مع ذلك يخشى الليبراليون أن تزيغ الحكومات عن النهج الليبرالي وتتحول إلى خطر وتهديد لليبرالية ذاتها.
رغم تأكيد الليبرالية احترام القيم المختلفة لدى البشر وعدم السماح بانتهاك هذه القيم، كانت القيم، وعلى الخصوص تلك المرتبطة بالدين والثقافة، من ضحايا الليبرالية.
لا شك أن الليبرالية نشأت وترعرعت وازدهرت ـ وأظن أن نجمها أخذ في الأفول ـ في الدول الغربية التي لها إرث مسيحي مرتبط بالقيم والأخلاق المسيحية.
ولكن القيم المسيحية ذاتها كانت ولا تزل هدفا مشروعا بالنسبة إلى الليبراليين حيث تلاحظ الآن أن لا دور للمؤسسة الكنسية في أغلب الدول الغربية، وكذلك ترى بعثا ونهضة للقيم التي تعاكس القيم المسيحية في العقد الاجتماعي الذي يربط مثلا الرجل بالمرأة وفي مضارب اجتماعية كثيرة أخرى لا مجال للخوص في تفاصيلها.
ولكن يحضرني هنا مفهوم العائلة في السويد حيث تتألف ـ إضافة إلى المفهوم المسيحي التقليدي ـ من رجل ورجل، امرأة وامرأة وفي الإمكان أن تتألف العائلة من رجل واحد وامرأة واحدة. مرة أخرى أترك التفاصيل جانبا وقد نعرج عليها في المقبل من الأيام.
إن كان هناك خاسر في النهضة الليبرالية الغربية فهي الكنيسة في الغرب. المدن الغربية تتألق بصروح الكنائس وأبراج نواقيسها وصلبانها، ولكن أغلب هذه الكنائس تحولت إلى متاحف يؤمها الناس من كل حدب وصوب وأحيانا مع كلابهم الأليفة لقاء رسم بسيط للدخول.
أما بقدر تعلق الأمر بإهانة الرموز المسيحية مثل الكتب المقدسة وغيرها من الدالات الكنسية فحدث ولا حرج، وعلى الملأ.
قد تكون إهانة القيم المسيحية في أغلب الدول الغربية أمرا مألوفا لأسباب أربعة: أولا، أن الأغلبية الساحقة من الناس علمانية التوجه، أي أنها لا دينية، لم تعد تؤمن بالأديان وكتبها. ثانيا، الجذور العميقة التي غرسها الفكر الليبرالي في الناس. ثالثا، أن الناس من الرخاء بمكان إلى درجة صار كثير منهم يرى ألا طائل من الإيمان في الغيبيات. رابعا، لم تعد المدارس تسمح بتدريس مادة الدين على النهج الكنسي، وأغلب الكنائس لم تعد تقدم هذه المادة لأن في الحقيقة مصطباتها فارغة.
وشخصيا أرى النقطة الرابعة مهمة جدا. الناس في الغرب لم يعد يتلقون دروسا في الأخلاق الدينية، وإن تم تدريس الدين في المدارس، فإن المناهج تنظر إليه كحركة فكرية وثقافية شأنها شأن الماركسية أو الليبرالية مثلا.
مناهضة القيم التقليدية ليست من الليبرالية في شيء، حسب تعريفنا في أعلاه، الذي يدعو إلى احترام الاختلاف في القيم والأفكار وأن كل قيمة ثقافية كانت أم غيرها لها لدى أصحابها من القدسية والمكانة ما لدى المختلف عنها.
وما يعاب على الليبرالية، ورغم كونها حركة فكرية عصرية، أنها تأخذ بالقياس كثيرا، أي أن مريديها يحاولون لا بل يفرضون وأحيانا باللجوء إلى العنف، أن يتم قياس العام حسب قاماتهم.
وهكذا يريدون تطبيق القياس ذاته الذي استخدموه ومارسوه مع القيم المسيحية على القيم التي لدى الأديان الأخرى، مثل الإسلام.
فإن كان انتهاك القيم المسيحية أمرا يستسهله لا بل يسمح به القانون الليبرالي من حيث النظرة إلى القيم المسيحية، إذا يجب تطبيق السياق ذاته على القيم لدى المسلمين ومنها النظرة إلى ما يرونه من كتاب منزل مقدس.
فإن كان حرق الإنجيل أمرا عاديا، فالقياس ينطبق على الكتب الأخرى التي يراها أصحابها مقدسة.
كم هم مخطئون. القياس يولد من رحم الثقافة. إن كانت الأسباب التي أدت إلى عزوف الناس عن قيمهم الدينية في الغرب، فإن الناس في الشرق ولأسباب أخرى زادوا تشبثا والتزاما بقيمهم الدينية.
والباحثون في شؤون العلوم الاجتماعية يدركون لماذا لا يكثرث الغربيون عند حرق الكتب التي يرونها مقدسة، ولماذا ينتفض المسلمون عند حرق كتابهم.
وهؤلاء الباحثون اليوم ينصحون الحكومة السويدية أن تراجع موقفها ونفسها وتغادر تطبيق قياسها الخاص على ثقافة مختلفة تماما.
ولقد أدان بعض الباحثين الاجتماعيين السويديين موقف حكومتهم اللامبالي الذي يصل حد الجهل المطبق باختلاف الثقافات، وأقحموا البلد في "أزمة شديدة" نتيجة تصرفهم وتفسيرهم الأعرج لمفهوم الحرية.

إنشرها