من صرخة الموت على شاطئ المتوسط إلى التلبية عند بيت الله الحرام

من صرخة الموت على شاطئ المتوسط إلى التلبية عند بيت الله الحرام

كان باب الحافلة على وشك الإغلاق حين ولج منه رجل خمسيني ذو بنية متوسطة مع لمحة إرهاق بادية على وجهه، أشرت له أن اقترب للمقعد المجاور فجلس، ولبى، ثم تبادلنا أطراف الحديث، أحد أشهر ملامح الحج هي الأحاديث العابرة السريعة تلتقي شخصا في الحرم أو في أحد أركان المشاعر أو في حافلة تتبادلان الأحاديث كأصدقاء قدامى ثم يذهب كل في طريق لا يلتقيان غالبا وإلى الأبد، ويصبح هذا المشهد من الذاكرة.

تستقبل السعودية هذا العام أكبر عدد من الحجاج منذ الجائحة، موسم 1443 كان كبيرا نسبيا إذ حج فيه مليون شخص، أما عام 1442 فعدد حجاجه 60 ألفا فقط، فيما كان موسم الجائحة في 2020 رمزيا، لم ترغب السعودية بتعليق هذه الشعيرة العظيمة فاختارت ألف حاج من كل الدول الإسلامية. 

قال لي محمود ذو السحنة المصرية السمراء، بلهجة مميزة أدركت لاحقا أنها إسكندرانية، كنت أنوي الحج في موسم الجائحة لكن قدر الله دفعني للتأجيل، ولم أوفق في كلتا السنتين التاليتين بسبب محدودية عدد الحجاج، وفي هذا الموسم عقدت العزم ألا يفوتني النسك، غير أن القدر كان يرسم لمحمود طريقا آخر.

محمود ينتمي إلى مدينة الإسكندرية، قلت له إنها مشهورة بخفة الدم، كنت مخطئا بالطبع مصر كلها مشهورة بذلك، غير أن المدينة رفدت العالم العربي بوحيد سيف ومحمود عبد العزيز وأخرجت جامعاتها سمير غانم وكلهم من كبار المضحكين، وهي أيضا تتميز دونا عن بقية مصر بتلاقي ثقافات ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية وبها لمسات واضحة على البناء واللغة والمدينة بشكل عام.

قال لي: كنت أمشي على الشاطئ في جو بارد، وفي لحظة استرخاء، هاجمني ألم في الصدر، وتنمل في الأطراف، وضيق في النفس وإرهاق وتعرق، إنها بلا شك أعراض مثالية لنوبة قلبية حادة، كما "يقول الكتاب" في تعبير البعض، كأن صفائح الدم وهي المسؤولة عن تجلط الدم استنسخت قسم الأعراض من دليل المستخدمين في منظمة الصحة العالمية.

 لسوء الحظ الأعراض المثالية لأمر سيئ تشير إلى أنه غالبا سينتهي بصورة مأساوية، سقط محمود على رمال الشاطئ وأسهم الموج الذي ارتفع قليلا بأن يجعله مجندلا في الطين، وفي برودة قاسية تغذيها مياه الموج التي تأتي من البحر المتوسط المحمل بآلام المهاجرين وعذاباتهم، وصراخهم وهم يغرقون، لا يسمعهم أحد،  تلسعه بسياط باردة تزيد من عذابه، وكأن الأمواج العاتية التي كانت تقلب قوارب خشبية تحمل مئات الباحثين عن الحياة الكريمة في الضفة الأوروبية من البحر اختارته لتعاتبه أو قل لتعاقبه نيابة عن البشرية الغافلة عن مآسي الهاربين من الجوع والفقر والحروب.

لحظات توحي بالنهاية، يتساءل: كيف يمكن أن تتغير حياة إنسان في لحظة، دون مقدمات وبلا إنذار، صوت الماء يسطو على جسده بدأ يغطي على صراخه، يقول: أغمضت عيني الشاخصة إلى السماء في أصعب لحظة أعيشها في حياتي كلها، وتشهدت وتوقعت أني غادرت إلى الضفة الأخرى من الحياة، تأخر إسعاف محمود ولم يفق إلا بعد ثلاثة أيام طريح فراش المستشفى بلا حراك.

السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهنه بعد أن استوعب حجم الصدمة: هل هذا الوقت سيمضي؟ هل هذه الفرضية التي يكررها الجميع حقيقة، قلت في نفسي: مستحيل، الأمر جلل، لن أعود كما كنت، ثم ماذا عن الحج الذي لم يتبق عليه سوى ستة أشهر.

وبحسب منظمة الصحة العالمية فالأمراض القلبية الوعائية هي السبب الرئيسي للوفاة في العالم، إذ تتسبب في وفاة نحو 17.9 مليون شخص كل عام. وأربعة من أصل 5 وفيات ناتجة عن الأمراض القلبية الوعائية تعود إلى النوبات القلبية والسكتات، ويحدث ثلث هذه الوفيات مبكرا عند أشخاص تقل أعمارهم عن 70 عاما. كما يعاني نسبة لا يستهان بها من المصابين من مشكلات في الحركة على المدى الطويل، ينتج بعضها بسبب قلة الحركة الذي يؤدي بدوره إلى وهن وضمور في العضلات التي تصبح غير قادرة على حمل الجسم وتحريكه.

شهر كامل بلا حراك يذكر، لكن إرادة الله قضت له بعد علاج مكثف متزامن مع آخر طبيعي أن تتحرك الأطراف، بثقل لكنها تتحرك، العودة للحياة الطبيعية كان في عيني محالا، وراود الشك كل المقربين مني، وإن آثروا عدم إزعاجي بهذه الحقيقة، فضلت الرد بالأفعال، وتقدمت للحج وقبلت وصعدت الطائرة إلى المشاعر المقدسة ثم صعدت الحافلة الآن معك، واللحظة المؤلمة حين شخصت عيني إلى السماء ممدا على الأرض على شاطئ بارد مضت، نعم "هذا الوقت سيمضي" إنها فرضية لا يجوز اختبارها لأنها حقيقة علمية، قالها بلهجة عامية وبضحكة صافية: عمرك شفت زمن بيرجع ورا؟

وصلت الحافلة إلى كدي، نزل محمود وأنا أرمقه متعجبا من قصته، تمنيت لو التقطت له صورة، لكن الوقت مضى وأنا في ذهول، إنه حديث عابر من أحاديث الحج، تلتقي شخصا كأنه صديق قديم تعرفه منذ سنوات، ثم لا تتقاطع طرقكما إلى الأبد.

سمات

الأكثر قراءة