Author

التثبيط .. السلاح الخفي

|

تعج وسائل التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها بكثير من المشاركات، ومن مختلف المشارب الفكرية والثقافية والخلفيات الاجتماعية والسياسية، مع ما يعنيه ذلك من تباين في طريقة الطرح، ونوعه، وأهدافه، وتوقيته، فما أن يقع حدث في أي مكان من العالم إلا وتنبري له الأقلام والألسن حديثا وتحليلا وعرضا للحدث، إما بتفصيل ممل، وإما بتحريف وزيادة ونقصان من قبل الكاتب، أو المتحدث، بهدف تحقيق الهدف أو الأهداف الكامنة وراء المشاركة.
باستقراء كثير من المشاركات لكثير من المشاركين المشهورين، وغيرهم في موضوع واحد، أو أكثر يتضح النسق الذي يتبعه البعض لإيصال رسالته بغض النظر عن طبيعتها، التي تستهدف المشاهد أو القارئ بهدف إقناعه بوجهة النظر، أو الفكرة التي يخدمها لتتحقق المكاسب سواء الشخصية أو مكاسب الجهة التي تقف خلف المشارك كتابة أو حديثا. وكما يقول المثل الكتاب يتضح من عنوانه، إذ نلمس من لحن القول طبيعة الفكر أو مستوى الثقافة وعمقها أو الانتماء السياسي، وهذا كفيل بكشف المستور، أو ما يعتقد الفرد أنه يقدمه بشكل مستتر، أو بلغة السياسة بشكل محنك.
بعض المقالات والأحاديث التي تتناول بعض الأحداث يلمس القارئ المتمعن أنها تصطبغ بنزعة ما، وبمتابعتي ما نشر بشأن أحدها لمست سعيها إلى غرس الإحباط لدى المستهدفين في المقال، خاصة إذا كانوا من ذوي الشأن والعلاقة في الحدث، كأن تكون بلادهم محتلة، أو تسيطر عليها أقلية بهدف الوصول بهم إلى حافة الاستسلام والقبول بالواقع من خلال طرح مفهوم الواقعية والابتعاد عن المثالية والركون لمعطيات الحاضر، وكأن المقال يستهدف تجريد المخاطب من إمكاناته المادية والعقلية، حتى ليخيل للمخاطب أنه يعاند ذاته ويتنكر لحقائق الواقع المعاش.
القرآن الكريم أشار بشكل واضح وصريح إلى التكتيكات التي يلجأ إليها المخالفون في العقيدة، إذ إنهم يلجأون إلى قاعدة المسايرة والتصديق في البداية، ثم الانكفاء والتراجع بهدف تشكيك المسلمين في صحة عقيدتهم، والرسالة التي نزلت عليهم، «وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون»، وفي الآية الكريمة نجد السعي إلى استهداف الكيان النفسي والعقلي للمؤمنين، بهدف تشكيكهم في معتقدهم انسياقا وراء من آمنوا أو من ادعوا الإيمان، ثم ما لبثوا أن تراجعوا وكفروا.
التفسير الثاني الذي أشار إليه القرآن يتمثل في تحريف الحقائق، والدس في المتون المكتوبة، أو المقروءة لإيجاد حالة من التشويش المعرفي في الذهن، بهدف تغييب الحقيقة بوجود معلومات متناقضة ومتضاربة يصعب معها الاستدلال على الحقيقة، خاصة عند محدودي المعرفة ومحدودي التفكير، وهم في غالب المجتمعات يمثلون عامة الناس، «وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون».
تحريف الحقيقة، أو المعلومة يكون مقصودا في أحيان كثيرة، لغياب الوازع الأخلاقي، وافتقاد الموضوعية عند المتحدث، كما يكون غير مقصود لدى البعض حين لا يتحرون الحقيقة، ولا يسعون إلى الوصول إليها جهلا منهم بآليات الوصول إليها، أو لعدم الاهتمام، والكسل، حتى لو كانت النتيجة خسارة فادحة على مستوى المستهدفين، وهم عادة سائر أفراد المجتمع.
خلط الأكاذيب بالحقائق أحد التكتيكات التي يلجأ إليها البعض، بهدف كسب المصداقية، فوجود حقائق فيما يقدم يمثل طعما يغتر به المتلقي، ليصدق كامل القصة، وتحدث لديه التغيير المقصود، خاصة إذا كان الهدف إيجاد حالة من التثبيط والإحباط، كما أن من التكتيكات اختلاق مرجعية ذات ثقة ومصداقية كأن يستند الكاتب، أو المتحدث، إلى أن مصدر معلوماته من وكالات عالمية أو منظمات دولية. صناعة التثبيط في كل مجال لها متخصصوها، ولها قواعدها، ومبادئها المبنية على الأسس النفسية، لذا تعج وسائل التواصل الاجتماعي بالساعين إلى إحباط الشعوب، وإيجاد الدونية لديهم، خصوصا عند مقارنة المجتمعات ببعضها.
ما من شك أن العلوم الاجتماعية والنفسية التي برع فيها الغرب في الوقت الحاضر تنظيرا، وتجريبا، وملاحظة، كما في علم النفس الثقافي، والاجتماعي، والشخصية، مكنته من توظيفها بهدف التأثير والتغيير في تفكير وسلوك كثير من المجتمعات، فهل نستفيد من منتجاته المعرفية لخدمة قضايانا والبشرية جمعاء؟

إنشرها