Author

مواد ضرورية لكنها خطيرة

|

حققت التكنولوجيات الرقمية تقدما ملحوظا في عالمنا اليوم بسرعة تفوق أي ابتكار في تاريخنا - حيث وصلت إلى نحو 50 في المائة من سكان العالم النامي فيما لا يتجاوز عقدين من الزمان، أحدثت تحولا في المجتمعات.
ومن خلال تعزيز الاتصال الإلكتروني والشمول المالي وإمكانات الوصول إلى الخدمات التجارية والعامة، يمكن أن تمثل التكنولوجيا عاملا كبيرا في تحقيق المساواة.
ففي قطاع الصحة، على سبيل المثال، تساعد التكنولوجيات الرائدة التي يدعمها الذكاء الاصطناعي على إنقاذ الأرواح وتشخيص الأمراض وإطالة العمر المتوقع.
وفي مجال التعليم، يسرت بيئات التعلم الافتراضي والتعلم عن بعد، إمكانية التحاق طلاب ببرامج كانوا سيتعرضون دونها للاستبعاد.
كذلك أخذت الخدمات العامة، بفضل المساعدة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، تزداد سهولة في الحصول عليها، وتزداد خضوعا للمساءلة من خلال النظم التي تعمل بتقنية سلاسل السجلات المغلقة، كما أخذت تبتعد عن الطابع البيروقراطي المرهق. ويمكن للبيانات الضخمة أن تدعم أيضا سياسات وبرامج أكثر تلبية للاحتياجات وأكثر دقة.
رغم هذا التقدم المسجل، إلا التكنولوجيات سجلت سلبيات في قطاعات وجوانب أخرى يمكن أيضا أن تهدد الخصوصية، وتؤدي إلى تقلص الأمن وتفاقم عدم المساواة. وهي تنطوي على آثار بالنسبة إلى حقوق الإنسان وفاعلية دوره. وعلينا، أن نختار الكيفية التي نستفيد بها من التكنولوجيات الجديدة ونديرها بشكل مفيد.
وهنا يصعب حسم مسألة تتعلق بصلب التقدم التكنولوجي، وتمثل المحور الأهم قاطبة في الصناعات المتقدمة، وهي تلك التي ترتبط بصناعة الرقائق التي باتت منذ عقود أساس الإنتاج في هذا المجال الحيوي المتطور والمتجدد. والمسألة تتعلق بمخاطر صحية يحذر المختصون منها آتية من استخدام مواد كيماوية تعرف باسم الفاعلات بالسطح الفلوري PFAS، وهي مادة ضرورية لإنتاج الهواتف الذكية والطائرات والمركبات الكهربائية، حتى بدلات رجال الإطفاء. وهي تستخدم بالدرجة الأولى في إنتاج الرقائق الدقيقة. وهذه الأخيرة تسببت منذ أعوام في إرباك حركة التصنيع الإلكتروني عموما، نتيجة تراجع إنتاجها، للتعقيدات التي تصاحب إنشاء المصانع المنتجة لها، وحتى العثور على الإمدادات اللازمة من المواد الأولية كالرمال الخاصة.
التحذيرات من المخاطر الصحية في استخدام الفاعلات بالسطح الفلوري، آخذة في الانتشار، إلى درجة أن أسئلة بدأت تظهر على الساحة على شاكلة، هل نمضي قدما في استخدام هذه المواد لتأمين الإنتاج التكنولوجي المتطور في حياتنا، مقابل نشر المخاطر على الصحة العامة؟ ولكن يمكننا أن نعكس السؤال على الشكل التالي، هل يتحمل العالم نقصا في هذه المواد، في سياق مساره نحو التطور وتوفير الوسائل التي تسهل حراك الإنسان؟ هذه المواد الكيماوية تعد حجر الزاوية في صناعة الرقائق، وبالتالي فهي جزء أصيل في تنمية الاقتصاد العالمي الذي بات منذ أعوام عديدة يعتمد على البيانات في أدائه. لا بد من حلول لهذه المعضلة، تضمن صحة الإنسان بالدرجة الأولى، وتحافظ على وتيرة التنمية العالمية كلها.
هذه المواد "وفق المختصين"، لا تتحلل بسهولة في البيئة، كما أنها تسبب مشكلات في الخصوبة، وإعاقة نمو الجنين، وأمراض الكبد، ورفع خطر الإصابة بالسرطان عند البشر.
معنى ذلك، أنه لا بد من التحرك من أجل إيجاد حلول ما لهذه المسألة التي يبدو أنها ستكون حاضرة على الساحة فترة طويلة، أو حتى يتم الحسم فيها.
ومن هنا، يمكن فهم تحرك المفوضية الأوروبية أخيرا، لسن قوانين تحظر مواد كيماوية بعينها يصل عددها إلى عشرة آلاف مادة متنوعة، بفترة انتقالية بحدود 13.5 عام لصناعة الرقائق. وهذا يعني أيضا، أن على الجهات المنتجة للرقائق وغيرها من المواد المستخدمة في إنتاج الأجهزة والملابس الذكية والسيارات والطائرات وغيرها، البحث عن بدائل، أو على الأقل إنشاء منظمة توفر السلامة للناس الذين يستخدمون هذه المنتجات المحورية للحياة اليومية. وإذا ما تم ذلك، سيكون الأوروبيون قد فرضوا أوسع تقييد في استخدام المواد الكيماوية في التاريخ.
اللافت في الأمر، أن بعض الشركات الكبرى لم تقف في وجه الحراك الراهن لتقييد المواد الكيماوية هذه، بل إن شركة ضخمة مثل "3 إم" تعتقد بأن إنتاج مواد الفاعلات بالسطح الفلوري فيها كثير من المخاطر ولا تستحق الربح المحتمل. ولهذا السبب فقد قررت وقف إنتاج هذه المواد بحلول 2025. ويبدو واضحا، أن بعض الشركات المتخصصة بإنتاج هذه المواد، تعرضت بالفعل في الفترة الماضية إلى دعاوى قضائية بسبب حالات تلوث.
يبدو واضحا، أن المسألة باتت ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى، وهذا يتطلب من شركات تصنيع الرقائق وجهات التوريد تطوير فئة جديدة من المواد الكيماوية الأقل ضررا على البيئة والأقل خطرا على حياة الناس، بما في ذلك الأمراض التي من المحتمل أن تنشرها.
لكن تبقى المشكلة الأهم في هذا المضمار، وهي هل ستستطيع الجهات القائمة على صناعة هذه المواد العثور على البدائل في فترة زمنية قصيرة، أو في المدة التي سيقرر المشرعون منحها لها؟ المؤشرات كلها تدل على أن الأمر ليس بهذه السهولة، بما في ذلك المطلعون على هذه الصناعة. وعملية التحول هذه تحتاج إلى مزيد من الوقت، حتى التضحيات المالية من جانب المنتجين ومستخدمي المنتجات التي تعتمد على هذه المواد الكيماوية في صناعتها.

إنشرها