Author

التصنيع الأكثر ذكاء

|

ترصد معظم دول العالم ميزانيات كبيرة لتطوير صناعات المستقبل لكنها تواجه منافسة شرسة فيما بينها تجعلها في محل تسابق متسارع من أجل استقطاب الاستثمارات من خلال توجه الصناعات المستقبلية إلى استدامة ومرونة غير مسبوقة، وتشكل الأتمتة الصناعية المفتوحة التي تركز على البرامج الحل المناسب لذلك.
وهنا يبدأ التصنيع الأكثر ذكاء، حيث حان عصر الابتكار الصناعي الجديد وتتمحور صناعات المستقبل بالكامل حول ابتكار الناس للمنتجات التي تشكل حياتنا بفكر الأتمتة العامة من خلال عالم مكوناته برامج الأتمتة القابلة للتوصيل والإنتاج التي أثبتت قدرتها على حل تحديات معينة.
وهنا خلص تقرير قدم للكونجرس الأمريكي عن صناعات المستقبل إلى قائمة من التقنيات الناشئة شملت أنواعا من الصناعات في الحوسبة المتقدمة، المواد المتقدمة اللازمة لتصنيع الروبوتات، الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الاتصالات المتطورة من الجيل التالي، كما شملت القائمة تكنولوجيا البطارية والتكنولوجيا الحيوية والأمن الإلكتروني، وكذلك تقنيات أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية الدقيقة، وعددا آخر من التقنيات الحديثة. وما يجعل هذه الصناعات أو التقنيات تمتلك القدرة على إيجاد قيمة اقتصادية في الأعوام المقبلة، كما أنها مصحوبة بتطبيقات تحويلية لا تزال كامنة وقابلة للاكتشاف.
وهذه النوعية من الصناعات لا تخلو من مخاطر كبيرة، خاصة أنها تشبه إلى حد ما صناعات التعدين حيث يتطلب العمل في مثل هذه الصناعات إلى موارد مالية كبيرة مع وعود سياسية باستمرار العمل على التطوير، فهذه التقنيات الحديثة تتطلب دعما لا محدود لمتطلبات البحث والتطوير، وهو ما يحجم القطاع الخاص عنه في معظم الحالات ما لم تكن النتائج واعدة بوضوح، وفي ظل هذه الشروط والمتطلبات فإن المعول عليه في تقدم أي دولة في هذه الصناعات هو مدى قناعة السياسيين بذلك وتوفير الدعم السيادي لها واستدامة ذلك. من هذه الخصائص عرف التقرير الأمريكي صناعات المستقبل بأنها القطاعات الصناعية المتقدمة التي تدعم النمو المبتكر والشامل والعادل والمستدام، ولديهم اتصال عميق مع التكنولوجيا والبحث والتطوير والقوى العاملة، وتتطلب استثمارات في البحث والتطوير لدعم النمو الذي سيؤدي إلى تأثير تحويلي، وستفيد بشكل كبير الازدهار الاقتصادي والأمن القومي في المستقبل.
في ظل هذا التعريف، والخصائص النوعية لهذه الصناعات فقد تزايدت حمى المنافسة بين دول العالم من أجل استقطاب الاستثمارات ودعمها في هذا المجال، فبينما تتصدر الولايات المتحدة المشهد العالمي بقانون خفض التضخم الذي يسعى لتخصيص 430 مليار دولار، تقدم على شكل إعانات لصناعات المستقبل لكن وضعت لذلك شروطا من بينها أن يتم التصنيع في أمريكا الشمالية، كما تضمنت الخطة الأمريكية قيودا على تصدير بعض المكونات الإلكترونية إلى الصين باسم المصلحة الوطنية، وفي مواجهة ذلك تعمل الصين ضمن خطة طموحة تعرف بخطة "صنع في الصين 2025"، وهي خطة تسعى إلى تحويل البنية التحتية التصنيعية الحالية في الصين وكذلك سوق العمل نحو الصناعات المتقدمة خاصة في مجال الروبوتات وتكنولوجيا المعلومات والطاقة النظيفة مع التركيز على البحث والتطوير (R & D) والابتكار التكنولوجي ورغم أنه لم يتم الإعلان بوضوح عن حجم الإنفاق على هذه الخطة لكن التقارير الخاصة بها تؤكد أنها قد تتجاوز مئات المليارات من الدولارات، على شكل تمويل حكومي، وقروض ذات فائدة منخفضة، وإعفاءات ضريبية مع إعانات مختلفة، ومن الجدير بالذكر أن الصين قد أقرت إنفاق 1.4 تريليون دولار خلال خمسة إلى ستة أعوام لبناء شبكات 5G.
فليست الصين والولايات المتحدة وحدهما في هذا السباق، فدول الاتحاد الأوروبي تسعى في المضمار نفسه ولو كان بسرعة أقل، فقد رصد تقرير لـ"الاقتصادية" استثمارات أجنبية بقيمة 13 مليار يورو في مواقع صناعية في فرنسا، من بينها مشروع لشركة "برولوجيوم" التايوانية بأكثر من خمسة مليارات يورو لإقامة مصنع للبطاريات في شمال البلاد، مدعوما بمساعدة حكومية كبيرة لم يحدد مبلغها. كما أعلنت شركة "وولفسبيد" الأمريكية للرقائق الإلكترونية هذا العام استثمارا بقيمة ملياري يورو لإقامة مصنع لأشباه الموصلات في ألمانيا، وفي مجال الرقائق الإلكترونية، أقر "قانون الرقائق" الأوروبي استثمارات بحدود 43 مليار يورو حتى 2030، هذه المنافسة الشديدة لجذب الشركات العالمية من خلال حزمة دعم هائلة مقارنة بأي وقت مضى أو أي صناعة أخرى يظهر بجلاء مع حديث برونو لومير وزير الاقتصاد الفرنسي أن "المعركة حادة بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا، ولا أحد يتهاون"، ويقول كلود لابيريار رئيس آبسيل: إن الأغلبية الكبرى من صانعي البطاريات الأوروبيين يقولون إنهم يرغبون في تطوير أعمالهم في أوروبا، لكن المساعدة التي تقدمها لهم الولايات المتحدة مثيرة للاهتمام إلى حد لا يمكنهم تجاهلها".
ولا تقف المملكة العربية السعودية خارج هذا السباق فقد أعلنت في 2021 إنشاء مدينة نيوم الصناعية، "أوكساچون" ضمن مخطط مشروع نيوم الرئيس، وتستهدف تقديم نموذج جديد لمراكز التصنيع المستقبلية وقد قال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حينها: إن "أوكساچون" ستسهم في إعادة تعريف توجه التنمية الصناعية في المستقبل، كما تشكل المدينة أكبر هيكل عائم في العالم وتعد مركزا لتطوير نيوم لـ"الاقتصاد الأزرق" وذلك بالاعتماد على البحار في تحقيق التنمية المستدامة، ما يوضح مفهوم تعزيز البحث والتطوير وتعزيز الابتكار.
فالمدينة ستعمل أيضا على تعزيز تقنيات المستقبل مثل إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات. هكذا حجم التنافس السعودي في مجال صناعة المستقبل، التي تعد اليوم أهم الصناعات التي تسمح ببناء منظومة متكاملة من الصناعات التحويلية الضخمة المرتبطة بها التي لا تزال محل تطوير واستكشاف، وستسهم في استدامة الاقتصاد الوطني وتنوعه، وهو ما تعمل رؤية المملكة 2030 على تحقيقه من خلال عمل متوازن بين كل القطاعات والبرامج.

إنشرها