Author

نمو عالمي في ظل صراعات

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الاقتصاد العالمي في وضع أفضل مما كان متوقعا في البداية"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية
بصرف النظر عن مستوى الاتجاهات المتبدلة للاقتصاد العالمي في المرحلة الراهنة، فالتوتر على ساحته يبقى موجودا، وحالة عدم اليقين تظل حاضرة، والمؤثرات السلبية المفاجئة تقوم بدور لا أحد يريده. إن هذا الاقتصاد يمر بمرحلة فيها كثير من المتغيرات، وهي أيضا فترة زمنية حساسة إلى درجة أن توقعات الجهات المختصة تتعرض للتعديل بين الحين والآخر، من فرط المتغيرات المتلاحقة المشار إليها. الاقتصاد العالمي اليوم، لا يشبه ذاك الذي كان في العقد الماضي، ومن الواضح أنه ماض في سلسلة من التحولات، تدفع مع الوقت إلى إعادة صياغة جديدة له. وهذه الصياغة ليست بالضرورة أن تكون سيئة تماما، لكنها تتطلب تعاونا دوليا ليس موجودا بما يكفي على الساحة العالمية. فضلا عن الصراعات الحاصلة بين القوى المؤثرة، التي تنتج مزيدا من التوتر في ساحة تعج بالاضطراب الاقتصادي.
لا شيء يشغل بال المشرعين على الساحة العالمية أكثر من مسألة مستويات النمو المتوقع للاقتصاد الدولي. فالنمو لا يعني فقط الازدهار في هذه المرحلة، بل يسهم مباشرة في سد الثغرات المالية التي أفرزتها سلسلة من التطورات الدولية، بما في ذلك بالطبع جائحة كورونا، التي من المتوقع أن تبقى آثارها الاقتصادية حاضرة على الساحة حتى نهاية العقد الراهن على الأقل. صحيح أن العالم تجاوز هذا الوباء، لكن تبعاته لا يمكن تجاوزها في فترة زمنية قصيرة، لأنها تركت أعباء لم تكن في حسبان أي من المشرعين هنا وهناك. ولذلك، فإن التركيز على النمو، يبقى استراتيجية ينبغي ألا تتقدم عليها أخرى، بصرف النظر عن المصاعب أو العقبات التي تقف في طريق هذا النمو.
لا شك أن أسعار السلع والغذاء والطاقة استقرت بشكل ملحوظ، مع تراجع الضغوط الآتية من جهة سلاسل التوريد التي أضافت مزيدا من الأعباء في الفترة الحرجة. ومع تفاؤل جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية بشأن الاقتصاد العالمي، إلا أن كريستالينا جورجييفا مديرة صندوق النقد الدولي، تعتقد بأن العالم سيشهد أضعف نمو اقتصادي منذ تسعينيات القرن الماضي. وهذه الأخيرة، لا تخفي قلقها من التحولات التي تتم في هذه الساحة. لكن في النهاية، سيكون هناك نمو عالمي هذا العام يصل إلى 2.8 في المائة، منخفضا من 3.4 في المائة في العام الماضي، مع توقعات متفائلة جدا من جانب البنك الدولي بتحقيق النمو 3 في المائة في 2024. وهذه النسبة ليست سيئة إذا ما أخذنا في الحسبان حاليا الوضع الاقتصادي العالمي عموما، غير أنها لا توفر أرضية صلبة لنمو أكثر استدامة حتى منتصف العقد الحالي.
وكالعادة الذي يقود هذا النمو "لو صدقت التوقعات"، دول مثل الصين والهند وغيرهما من دول تتمتع أساسا بقدرة كبيرة في هذا المضمار، بينما لن يصل النمو في الدول المتقدمة إلى أكثر من 1 في المائة فقط للعام الحالي. وهذا أيضا يعد أمرا مفهوما. إلا أن كل شيء قابل للمراجعة على صعيد النمو، لأن مسببات التباطؤ أو الانكماش أو حتى الركود لا تزال موجودة بصورة أو بأخرى، في مقدمتها بالطبع الآثار التي تتركها الحرب في أوكرانيا على الساحة الدولية، وارتفاع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة في كثير من الدول، إلى جانب آثار كورونا المشار إليها، فضلا عن الاضطرابات الأخيرة التي حدثت في القطاع المالي الأمريكي والسويسري، التي يخشى أن تعود مجددا بعد هدوئها. لكن تبقى الصراعات الجيوسياسية العامل الأكثر خطورة على المدى البعيد، إذا لم تتقدم الدول المعنية فيها بحلحلتها اليوم وليس غدا.
وهذا ما يفسر بالتأكيد ما قالته كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، التي عملت رئيسة لصندوق النقد الدولي سابقا، بأن "التغيرات الناجمة عن الأوضاع الجيوسياسية في الاقتصاد العالمي، تمثل تحديا حقيقيا لكل البنوك المركزية حول العالم". ما يحدث الآن، ليس إلا تجزؤ هذا الاقتصاد لكتل متنافسة، حيث تسعى كل كتلة إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الدول إلى مصالحها الاستراتيجية. بالطبع هذا العامل يبقى مؤثرا سلبيا على المدى البعيد، إلا أنه يؤسس مع الوقت لحقيقة ستكون ماثلة على الأرض، وستؤجج أكثر المواجهات التي تنال من وتيرة أداء الاقتصاد العالمي عموما. فحتى النمو لن يكون ذا جدوى في صراع مفتوح ومتشعب لا حدود له.
المرحلة المقبلة على الساحة الدولية ستكون أكثر من حساسة، ليس فقط بوصول النمو إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثة عقود، بل بتعميق الاضطراب الدولي أكثر وأكثر. ويبدو واضحا أن الصراعات الراهنة ستكون السمة الحاضرة لفترات طويلة في المستقبل، مع غياب أي احتمال للتفاهم المثمر. فلم يكن أحد يتصور بعد الحرب العالمية الثانية أن يظهر تهديد نووي حقيقي من دولة كبرى. وإذا كانت الصراعات السياسية تؤثر بصورة سلبية قوية في نمو اقتصاد العالم، فكيف الحال بالصراع العسكري الحقيقي في أوروبا، الساحة التي خبرت الحروب الكبرى أكثر من أي منطقة أخرى على مر التاريخ.

إنشرها