تقنيات الذكاء وانكشاف الثغرات
منذ 2018، أصبح الذكاء الاصطناعي حقيقة لا خيال، ولم يعد يحتل مكانا في عالم الثقافة الشعبية فقط، إذ كان هذا العام بمنزلة النقلة الكبرى للذكاء الاصطناعي، فقد نمت هذه التكنولوجيا بشكل كبير على أرض الواقع حتى أصبحت أداة رئيسة تدخل في صلب القطاعات جميعها.
لقد خرجت هذه التقنية الجديدة من مختبرات البحوث ومن صفحات روايات الخيال العلمي، لتصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ابتداء من مساعدتنا على التنقل في المدن وتجنب زحمة المرور، وصولا إلى استخدام مساعدين افتراضيين لمساعدتنا على أداء المهام المختلفة، واليوم أصبح استخدامه متأصلا من أجل المصلحة العامة للمجتمع.
وعلى الرغم من هذه الضجة التي تسبب فيها الذكاء الاصطناعي، إلا أن العالم اليوم يشهد قلقا متزايدا وواسعا في نطاقه وردود أفعاله وقدرة هذه التقنيات على إنتاج ما يفوق القدرة البشرية على تقييمه، وهنا تظهر المشكلة الأساس، إذ أكد تقرير لـ"الاقتصادية" نشر أخيرا، وجود مخاطر كثيرة بشأن هذه التقنيات، ما يهدد هيكل اقتصاد البشر القائم اليوم، وآليات عمله، وطريقة تفكيرنا بشأنه.
وناقش تقرير لشركة الاستشارات العالمية ماكينزي ما قد يتسبب به التأخر في فهم هذه المخاطر المحيطة به، من بينها قدرتنا على الحكم كبشر بأن المخرجات التي يأتي بها كاملة وغير منقوصة مثلا، فالاعتمادية التامة على هذه التقنيات قد تعطل كثيرا من الحس الطبيعي لدى الإنسان وتدخله في الشك.
ورغم أن عديدا من الصناعات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي اليوم أصبحت أكثر انكشافا على هذه المخاطر، إلا أن القلق بدأ يتسرب بشأن آثارها الخطيرة للغاية في القطاع المالي خصوصا، ذلك أن القطاع المالي أصبح يعتمد شيئا فشيئا على هذه التقنية في مجالات عدة، من بينها قدراته المدهشة في دعم وأتمتة المهام الروتينية مثل فتح حسابات جديدة أو تحديث معلومات العميل، إضافة إلى ما أصبح يقدمه من دعم في كشف الغش، حيث إن قدراته على تحليل المعاملات في لحظة إجراءاتها الفعلية، قاد إلى اكتشاف أنشطة احتيالية وعزز من قدرة البنوك على اتخاذ التدابير المناسبة في الوقت الصحيح، ومن أمثلة ذلك ما سجلته شركة PayPal بحسب تقارير صحافية من انخفاض في حجم المعاملات الاحتيالية على الشبكة بشكل كبير، وعزت ذلك إلى فضل الحلول المدعومة، ليس هذا هو المجال الوحيد الذي اقتحمه الذكاء الاصطناعي، بل هو أكثر وضوحا في مجالات تقديم المشورة المالية المتخصصة، حيث أصبح قادرا على تقييم اتجاهات السوق واكتشاف الأنماط المتكررة والتنبؤ بالأسعار المستقبلية، بل يمكنها من تنفيذ المعاملات وتحسين استراتيجيات الاستثمار وتعظيم العوائد، وكل ذلك يتم من خلال تحليل البيانات المالية المعقدة، وتحديد المخاطر الاستثمارية المحتملة والتنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية.
وفي تقدم يعد كبيرا، استخدمت أداة الذكاء الاصطناعي التوليدي "شات جي بي تي" في تحليل بيانات "الاحتياطي الفيدرالي"، واستخدام أدوات "تحليل المشاعر" التي يستخدمها الآن عديد من المتداولين، التي تعالج ردود فعل وسائل الإعلام للتنبؤ في الأسواق.
وكما أشرنا، فإن هذه التطورات السريعة المتلاحقة، لم تقلل من القلق بل زادته بشأن مستقبل البشر مع هذه التقنيات، وهناك اليوم تقارير وأبحاث تشدد اللهجة بشأن ضرورة عدم استخدام "شات جي بي تي" حاليا إلا تحت إشراف بشري، لأنه يظل غير معصوم من الخطأ، ولا يزال من الممكن أن يخطئ في تصنيف الجمل، أو يفشل في التقاط الفروق الدقيقة التي قد يلتقطها مقيم بشري لديه خبرة في المجال، هذه العبارة وأمثالها تحاول أن تقارن التقنية بالبشر في الخطأ، لكن المعضلة أن معظم مستخدمي تقنيات الذكاء غير مؤهلين لفهم الذكاء الاصطناعي، أو حتى معرفة من يجب أن يراقبه.
في الواقع، إننا قد نعرف خطأ البشر فيما يتعلق بالحكم في موضوع ما، من خلال عرضه على الخبراء، لكن من يمتلك القدرة على تحكيم نتاج الذكاء الاصطناعي، في هذا الإطار بالذات هناك مخاطر كنتيجة لاستخدامه ولا توجد معالجة قريبة لها أو حتى متصورة، أولها أن أدواته غامضة تماما بالنسبة إلى الجميع، باستثناء منشئيها، وهذا الخطر يجعل نتائجه غير قابلة للتفسير أو حتى الحكم عليها، وإذا اعتمد عليها أصحاب القرار في مجالس الإدارات والتنفيذيين فلن يكونوا قادرين على معرفة أسباب الإخفاق إن هي حدثت.
والخطر الثاني ليس من جانب الذكاء نفسه، بل من مشكلة هيكل السوق الذي ينتج تقنيات الذكاء الاصطناعي، فمع شدة المنافسة من المحتمل أن تصبح السوق تحت سيطرة ثلاث شركات أو أقل، ما يعني استخدام الأساليب والنماذج والقدرة التحليلية والتفسيرية نفسها، وهذا سيشكل نظام ذكاء اصطناعي أحادي، وبالتالي إنشاء سلوك رقمي متشابه، أو أجهزة حاسب آلي تعمل كبعضها بعضا، وإذا حصل خطأ ما فإن تكرار نمط الخطأ قد يصبح شائعا، وفي ظل عدم قدرة البشر على الحكم، فإن الجميع قد يقع في خطأ كارثي ومدمر.
ومع تنامي استخدام هذه التقنية في القطاعات المالية والبنكية، فإن مخاطر الاضطرابات وفقدان الاستقرار المالي قائمة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لكن رغم وضوح المخاطر القائمة بشأن هذه التقنيات، فإن البشر ماضون نحوها باندفاع يثير القلق، ولا بد من تسارع الجهود نحو تطوير نماذج لمواجهة خطر انهيار المنظمات المالية ومواجهة عدم الاستقرار، كما أنه لا بد من سرعة تطوير الأنظمة والتشريعات التي تسهم في الضغط بقوة على مكابح المنظمات، التي تندفع بسرعة فائقة وغير مدروسة ودون تحوط كاف لمخاطر استخدام هذه التقنيات.