الدين الأمريكي والفلسفة الحزبية
من المتوقع حدوث ربكة كبيرة في الأسواق المالية نتيجة للمناورات السياسية بين البيت الأبيض والجمهوريين فيما يخص رفع سقف الدين للحكومة الأمريكية لأعلى من 31 تريليون دولار، وهذه المناورات انطلقت بالفعل حيث أعلن الرئيس الأمريكي أنه لن يسمح للجمهوريين باستخدام سقف الدين كوسيلة للضغط على الحكومة لتقليص النفقات.
مصدر الاختلاف بين الطرفين يعود إلى اختلافات في الجذور الفلسفية لكل من الحزبين الأمريكيين، فالجمهوريون يؤمنون بتقليص حجم النفوذ الحكومي وجعل الاقتصاد يعمل بطرق طبيعية دون تدخلات شكلية من قبل أي جهة كانت، وفي الوقت نفسه هم يفضلون تقليص حجم الدعم الحكومي الموجه للأفراد والشركات على حد سواء، لكون المبدأ الجمهوري يؤمن بالحرية الاقتصادية والاعتماد على النفس.
في المقابل نجد أن الفكر الديمقراطي يميل أكثر إلى رفع المشاركة الحكومية في المجتمع حتى إن أدى ذلك إلى زيادة حجم القطاع الحكومي وارتفاع التكاليف المجتمعية اللازمة، لمد يد العون لمن هم غير قادرين على تحسين أوضاعهم المالية. لذا فالفكر الديمقراطي إلى حد ما يتقاطع مع الفكرين الشيوعي والاشتراكي اللذين تلعب فيهما الحكومة دورا كبيرا في رعاية البلاد ومساعدة الضعفاء والمتعثرين.
الجمهوريون يستغلون مناقشات رفع سقف الدين للضغط على الكونجرس من أجل تقليص النفقات التي هم يرون أنها أحد أبرز أسباب ارتفاع حجم الدين الأمريكي طيلة الأعوام الماضية، وإن مواصلة الاقتراض لن تعالج قضية فلتان حجم الدين وتصاعد تكاليف صيانة الدين السنوية، التي تقدر الآن أنها بدأت تقترب من تريليون دولار في العام.
بمقارنة حجم الدين الأمريكي بحجم الديون العالمية نجد أن حصة الحكومة الأمريكية نحو 10 في المائة من الديون القومية في العالم، وهذه لا شك نسبة كبيرة ومخيفة، والسبب يعود بالطبع إلى العجز السنوي في الميزانية الحكومية والممتد إلى أكثر من 20 عاما متواصلة، حيث كان آخر فائض في الميزانية الحكومية عام 2001. وقد كان عجز الميزانية مسيطرا عليه لأعوام طويلة بحدود 100 إلى 400 مليار دولار سنويا، ثم ارتفع مؤقتا بعد الأزمة المالية 2008 إلى 1.3 تريليون دولار، وبسبب أزمة كورونا ارتفع إلى 3.1 تريليون دولار في 2020، و2.8 تريليون دولار في 2021، ولا يزال أكثر من تريليون دولار.
من بين دول مجموعة العشرين لعام 2023، بحسب توقعات مركز "ستاتيستا" للإحصائيات، أعلى نسبة دين عام إلى الناتج المحلي الإجمالي هي من نصيب اليابان بنحو 161 في المائة، تليها إيطاليا 129 في المائة، ثم فرنسا والمملكة المتحدة وأمريكا نحو 100 في المائة، وتأتي السعودية، بحسب توقعات "ستاتيستا"، الأقل بنسبة 12 في المائة، علما أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي تزداد إن زادت كمية الاقتراض، أو إن حدث تراجع في حجم الناتج المحلي، كما حدث لعدد من الدول في 2020. أما حجم الدين العام في المملكة، بحسب توقعات وزارة المالية، فسيبلغ 951 مليار ريال، أو بحدود 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية 2023.
لا توجد طريقة أخرى للحكومة الأمريكية لتغطية العجز السنوي إلا عن طريق الاقتراض - أو إن ذلك ما يراه الديمقراطيون - لكون رفع إيرادات الضرائب مسألة حساسة وجدلية، علما أن الحكومة تحصلت على 4.9 تريليون دولار من الضرائب في 2022، وقضية خفض النفقات العامة والمجتمعية كذلك هي الأخرى مسألة حساسة وجدلية وتضرب في عمق الفكر الديمقراطي وتزعزع أساساته.
من المهم الإشارة إلى أن نسبة من الفوائد المالية التي تدفعها الحكومة الأمريكية كعوائد لحملة السندات تعود إليها، وذلك بحكم أن أكبر المشترين للدين الحكومي هو البنك المركزي الأمريكي، مجلس الاحتياطي الفيدرالي، والذي بحسب نظامه يقوم بإعادة الفوائد التي يتحصل عليها إلى الحكومة مرة أخرى. أكثر من 40 في المائة من الدين العام الأمريكي مملوك من قبل الفيدرالي الأمريكي، ولكن حتى مع هذه الحقيقة لا تزال الفوائد المستحقة ضخمة وتتزايد باستمرار بسبب العجز السنوي في الميزانية، وكذلك بسبب ارتفاع معدلات الفائدة بعدة أضعاف منذ بداية 2022.
دول متعددة حول العالم تستحوذ على نحو 25 في المائة من الدين الأمريكي، كما في 2022، بواقع 7.4 تريليون دولار، وقد وصلت هذه النسبة إلى نحو ثلث حجم الدين الأمريكي في 2014، ولكنها بدأت الانخفاض منذ ذلك الوقت نتيجة تخلص بعض الدول من السندات الأمريكية، ولا تزال كل من الصين واليابان تستحوذان معا على نحو نصف حجم الدين الأمريكي.